في المرة الأولى التي سافرت فيها خارج غزة، كنت في السابعة والعشرين من عمري. خلال نشأتي؛ كنت أعتقد دائمًا أن “السفر” يعني ركوب سيارة أجرة أو حافلة أو دراجة داخل حدود قطاع غزة. ولم تكن عائلتي تعيش بعيدًا عن شارع السكة الحديد، لكن لم تكن هناك قطارات. وسمعت قصصًا عن مطار غزة الدولي، لكن إسرائيل قصفته عندما كنت في الثامنة من عمري.
وأتذكر أنني سألت صديق طفولتي عزت، الذي كان مشجعًا لكرة القدم، عن الأماكن التي يرغب في زيارتها يومًا ما. وقال لي: “برشلونة. أريد أن ألعب إلى جانب ميسي وتشافي وإنييستا”. وفي سنة 2014، بعد أيام قليلة من تخرج عزت من الكلية، قُتل في غارة جوية إسرائيلية. لقد كانت حرية حركتنا ضحية أخرى من ضحايا الاحتلال.
كان أول مكان حاولت زيارته هو بوسطن. وكنت بحاجة إلى تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، لكن لم يُسمح لي بالسفر أربعين ميلاً إلى السفارة الأمريكية في القدس، ولا القيادة لمدة أربع ساعات عبر إسرائيل إلى السفارة الأمريكية في عمان، الأردن. وبدلاً من ذلك، أوصلني شقيق زوجتي إلى معبر رفح الحدودي مع مصر في جنوب قطاع غزة، حتى أتمكن من السفر إلى الأردن لإجراء مقابلة التأشيرة.
أتذكر وقوفي في صالة السفر في رفح، محاطًا بالصغار والكبار والمرضى، وأفكر أن حقيبتي، مثلي، لم تسافر رحلة حقيقية من قبل. وعندما أقلعت طائرتي من مطار القاهرة الدولي، شعرت أن ساقيّ لا تحملني.
في السفارة الأمريكية في الأردن، سلمني أحد الضباط قائمة بالمعلومات الشخصية التي يجب أن أقدمها، مثل عناوين منزلي، وأرقام الهواتف، وعناوين البريد الإلكتروني، بالإضافة إلى أسماء إخوتي وأبنائي. وكان تاريخ سفري الذي يمتد لخمسة عشر عامًا فارغًا، ولم أكن أعلم كم من الوقت سيستغرق القرار، وكان الأمر الوحيد الذي أدركته هو أنه لم يكن بإمكاني العودة إلى غزة أثناء فترة الانتظار. وبعد أربعين يومًا من الانتظار والعيش في شقة مستأجرة في عمّان، حصلت أخيرًا على التأشيرة. وفي السنوات التي تلت ذلك، كنت محظوظًا بالقيام بالعديد من الرحلات.
منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أصبح من الصعب مغادرة غزة على الإطلاق. وتمكنت أسرتي الأساسية المباشرة من المغادرة في تشرين الثاني/ نوفمبر لأن ابني الأصغر، مصطفى، يحمل جواز سفر أمريكي. لكن في طريقنا إلى مصر، قام الجنود الإسرائيليون بفصلي عن أسرتي، حيث تعرضت للضرب والاستجواب.
في كانون الأول/ ديسمبر؛ قدمت والدتي طلبًا للسفر إلى قطر مع شقيقتي أفنان، التي تبلغ من العمر عشرين سنة والتي تحتاج إلى رعاية طبية لعلاج اضطراب وراثي نادر، فلم تتم الموافقة على طلبها حتى أواخر آذار/ مارس. وكانت أفنان، التي تمتلك مفردات طفل في الرابعة من عمره، بالكاد تستطيع فهم اللغة العربية المكسرة للجنود الإسرائيليين عند نقطة التفتيش. وكادت والدتي أن تفقد وعيها خلال مسيرة أربعة كيلومترات تحت أشعة الشمس؛ إن هذا ما يعنيه السفر في غزة الآن.
في حزيران/ يونيو؛ قمت برحلة أخرى، حيث كانت عائلتي ستنتقل من مصر إلى سيراكيوز في نيويورك. وخططنا لزيارة أمي وأختي في الدوحة في طريقنا إلى هناك، وكنا متحمسين جدًا. وفي الطريق إلى المطار، الذي استغرق ساعتين في سيارة الفان، كنت ألتقط الصور، وكان يزن ابني البالغ من العمر ثماني سنوات ينظر من النافذة ويطرح العديد من الأسئلة.
في الدوحة، استقبلتنا والدتي وأختي عند مدخل بنايتهم. وضحكت عندما نظرت إلى ثلاجتهم، التي كانت مليئة بالأطعمة الطازجة التي كان من المستحيل العثور عليها في غزة خلال زمن الحرب. وقلت لأمي: “انظروا ماذا لديكم! المانجو، والكرز، والخيار، والجبن، وغيرها”.
لقد بدت مذنبة وغير سعيدة، وقالت لي: “ليتني بقيت مع والدك وإخوتك وأطفالهم”. لقد انتظرت شهورًا لتأتي إلى الدوحة، لتتساءل الآن عما إذا كان ينبغي عليها المغادرة. وأوضحت أن أفنان كانت تشعر بالخوف من العودة إلى المنزل لدرجة أنها كانت ترفض مغادرة الشقة لأيام متتالية.
بقينا لمدة أسبوع، ثم استيقظنا مبكرًا في صباح الثامن عشر من حزيران/ يونيو وجمعنا حقائبنا. وقفت أمي في صمت، متجنبة النظر إلينا، ووعدتُها بأننا سنلتقي قريبًا في غزة، لكننا كنا نعلم في قرارة أنفسنا أننا قد نبقى بعيدين عن المنزل لفترة طويلة.
وفي طريقنا إلى المطار، كانت الشمس تشرق برشاقة فوق الخليج العربي، وشعرت بالفخر لأننا وصلنا إلى هذه المسافة. وكنا جالسين في انتظار رحلتنا عندما نظر إليّ شاب كان ينقر على شيء ما في هاتفه وتحدث بالعربية قائلاً: “هل أنت مصعب؟ مصعب أبو توهة؟”.
تظاهرتُ بأنني لا أعرف الاسم، لكن أطفالي كشفوا الأمر، فقالت ابنتي يافا: “نعم، هذا مصعب! إنه يمزح”.
ابتسم الرجل، وابتسمتُ للأطفال، ثم ابتسمتُ له وسألته: “كيف تعرفني؟”،
قال: “أعرف قصتك. ألستَ أنت الذي احتجزك الجيش الإسرائيلي؟”
رددت قائلًا: “نعم، في الواقع، لقد تم اختطافي وليس اعتقالي”.
كان الشاب فلسطينيًا مثلنا، وكان يدرس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، لكنه ساعد عائلته مؤخرًا في إخلاء غزة وإعادة توطينها في قطر. وشعرت بالدهشة عندما التقيت بغزاويين بالصدفة، مثل سمكتين وجدتا بعضهما في المحيط. إن هذه هي طبيعة الشتات: فالفلسطينيان اللذان ربما التقيا في غزة يومًا ما يلتقيان الآن في المطارات.
عندما هبطت عائلتي في بوسطن، خلال إحدى محطات التوقف، قفز مصطفى على إحدى حقائبنا المحمولة وطلب مني أن أسحبه معي. لقد أصبح هذا النوع من السفر هو المفضل لديه. وفي طابور الجوازات، بدأ يتسلل من تحت الحواجز ضاحكًا، ووجهه الصغير يعبّر عن انتصاره. ثم جاء دورنا للصعود إلى الكشك، حيث قمت بتسليم جوازات سفرنا وتأشيراتنا إلى امرأة ترتدي الزي الرسمي.
عندما رأيت رد فعل المرأة، بدأت أشعر بالقلق عما إذا كان هناك خطأ ما. فبدأت تتحدث إلى جهاز لاسلكي، ثم جاء شاب مفتول العضلات يحمل شارة معدنية ويعتمر صاعقًا ومسدسًا وأصفادًا على سترته، ليقودنا إلى منطقة الانتظار. شعرتُ بالتوتر بعد تجربتي مع الجنود الإسرائيليين، لكنني لم أرغب في أن تلاحظ عائلتي ذلك، وقال يزن بفارغ الصبر: “يجب أن نذهب إلى منزلنا الجديد”، وأخيرًا، جاء ضابط جمارك شاب ليتحدث معي.
فوجئت بلطف الضابط، الذي بدا قلقًا بشأن ما إذا كانت عائلتي في غزة آمنة ولديها ما يكفي من الطعام. وعندما أنهى طرح أسئلته، أعاد لنا جوازات سفرنا وعرض مساعدته في حمل حقائبنا. بدأتُ أشعر بالراحة، فأرسلت رسالة نصية إلى بعض الأصدقاء، كتبت لهم: “كل شيء على ما يرام. ونحن نجمع حقائبنا”.
وقبل أن نتمكن من الصعود على متن رحلة المتابعة الخاصة بنا، كان علينا المرور عبر الأمن مرة أخرى. وبدا أن بطاقة الصعود إلى الطائرة قد أطلقت إنذارًا آخر؛ حيث مدّ الضابط يده إلى جهاز لاسلكي وقال: “أيها المشرف!”
وظهر المشرف خلف الضابط ونظر إلى الشاشة، ثم تبادلوا أطراف الحديث بصوت منخفض قبل أن يوجه نظره إليّ. واتضح أن سلسلة من أربعة أحرف كانت مطبوعة على تذكرتي: “إس إس إس إس”، مما يعني اختيار الفحص الأمني الثانوي. وقال المشرف: “يمكن لزوجتك وأطفالك المتابعة. سأطلب منك أن تتبعني”.
هذه المرة، طُلب مني المرور عبر جهاز الكشف عن المعادن ثم ماسح ضوئي بالموجات المليمترية، ويبدو أن أيًّا منهما لم يعثر على أي شيء. وسألني موظف من إدارة أمن النقل إن كان بإمكانه تفتيشي، فوافقت، ثم مرر الموظف أصابعه حول ياقتي وأسفل صدري. وبدا أن المارة يتجنبون النظر إليّ.
تفحصت الحشد ولمحتُ زوجتي، مرام، من بعيد، تبدو وكأنها تبحث عني. أردت أن أصرخ بها لأطمئنها، لكني خشيت أن يزيد الأمر سوءًا. ثم لمس الضابط بظهر يده أعضائي الخاصة ومؤخرتي. وكنت أعرف أن هذا يحدث أحيانًا للمسافرين، ولكن للحظة شعرت بالضيق كما كنتُ في الحجز الإسرائيلي.
بينما كان الضابط يمسح كفي بحثًا عن المتفجرات، لمحتني يافا أخيرًا وحاولت الإشارة إليّ. قلتُ لها بالعربية: “سأنضم إليك عندما ينتهي العم”، وتصرفت وكأن عميلة وكالة الأمن الداخلي قريبة مني حتى لا تشعر بالخوف. وأخيرًا، غادر المشرف لتصوير جواز سفري، وعندما عاد، قال إننا انتهينا.
أجبته: “قبل أن أذهب، يجب أن أخبرك شيئاً”، فأصغى إليّ. قلت له: “لقد اختطفني الجيش الإسرائيلي في تشرين الثاني/ نوفمبر، قبل أن يتم تجريدي من ملابسي. اليوم، جئتم اليوم وفصلتموني عن زوجتي وأطفالي، تمامًا كما فعل الجيش قبل بضعة أشهر”.
أومأ برأسه وبدا عليه الحرج؛ فسألته إذا كان سيفعل الشيء نفسه مع المسافرين من إسرائيل، وتفكرتُ في كيفية تمكن المستوطنين الإسرائيليين، الذين يعيشون على الأراضي الفلسطينية في انتهاك للقانون الدولي، من السفر إلى الولايات المتحدة دون الحاجة إلى تأشيرة. فأجابني: “هذا اختيار عشوائي. إنه ليس مخصصًا لك”.
قاومت دموعي، إذ كان بإمكان أطفالي رؤيتي، وقلت: “بالنسبة لي، هذا ليس عشوائيًا. لقد سافرتُ إلى الولايات المتحدة ثلاث مرات من قبل، ولم يحدث لي شيء من هذا القبيل”. ثم أعطاني بطاقة عمل للشكاوى موجهة إلى إدارة أمن النقل الأمريكية.
حملت حذائي وساعتي ووثائق السفر وتوجهت إلى حيث كانت عائلتي تجلس. تناولنا بعض الغداء، وسرعان ما نام الأطفال في المرحلة الأخيرة من رحلتنا. وفي سيراكيوز، أقلّنا خمسة أصدقاء قدامى وحملوا حقائبنا العشر في سياراتهم الثلاث، وساعد دفئهم، ورائحة الأشجار في الخارج، والوجبة الساخنة التي كانت تنتظرنا في منزلنا الجديد في تخفيف إرهاقي وإحباطي.
لم أكن أتوقع أن رحلتي التالية ستكون أسوأ بكثير. ففي ظهيرة يوم 1 تموز/ يوليو تقريبًا، أعادني أحد الأصدقاء إلى مطار سيراكيوز، وكنت مسافرًا إلى مهرجان للكتاب في سراييفو عبر واشنطن العاصمة وفرانكفورت. ولم أتمكن من الوصول إلى بطاقة الصعود إلى الطائرة من هاتفي، لذا جربت كشك الخدمة الذاتية، الذي أخبرني أن وثيقة سفري تحتاج إلى التحقق من صحة بطاقة سفري، وقال الكشك: “يرجى تنبيه أقرب ممثل للخطوط الجوية المتحدة”.
وحدقت مندوبة الخطوط المتحدة في مكتب تسجيل الوصول في شاشتها لفترة طويلة لدرجة أن زميلة لها جاءت لمساعدتها. ثم سألتني بصعوبة في نطق اسم وجهتي: “أين تقع سراييفو؟”.
فأجبتُ: “إنها عاصمة البوسنة والهرسك”، وسادت لحظة صمت أخرى، ثم سألت إن كانت هناك مشكلة.
قالت إحدى المندوبات: “نعتقد أنه لا يمكنك العبور في ألمانيا”. فوجئتُ بذلك، فقد كنتُ قد سافرت عبر ألمانيا عدة مرات في الماضي.
وأشارت المرأة الأولى إلى رقم جواز سفري، وقالت: “إنهم يسمحون فقط بالأرقام التي تبدأ بأربعة أو ثمانية أو تسعة، بينما رقمك يبدأ بستة”.
وجدوا لي مسارًا جديدًا عبر واشنطن العاصمة وأثينا. ولم أكن سعيدًا بذلك، لأن الرحلة ستكون أطول مما كانت عليه من قبل، لكنني لم أعتقد أن لدي خيارًا آخر، فقبلت بطاقات الصعود إلى الطائرة الجديدة وتوجهت إلى الأمن.
نظر إليّ موظف أمن المطار الذي فحص تذكرتي ثم اتصل بمشرفه، وكان مكتوبًا على تذكرتي “اختبار فحص أمني ثانوي” مرة أخرى. وقرأ لي شاب صغير قواعد الفحص الثانوي – وكانت صفحتين من الطباعة الصغيرة – بسرعة كبيرة.
مرت حقائبي عبر الماسح الضوئي، بينما مررت عبر جهاز الكشف عن المعادن وجهاز الموجات المليمترية. وسألني أحد الضباط إذا كنت قد خضعت للتفتيش من قبل، فأجبت: “لسوء الحظ”. كنت أعرف ما يجب فعله، فقد مرر يديه على كل جزء من جسدي، وتذكرت الجنود الإسرائيليين مرة أخرى. وأخيرًا، سُمح لي بالانضمام إلى المسافرين الآخرين.
وجدتُ بوابتي وأخرجت هاتفي، وعندما بحثت عن قواعد السفر عبر ألمانيا، أدركت أن ممثلي الخطوط المتحدة قد أخطأوا. إذ كانوا ينظرون إلى قائمة بأرقام بطاقات الهوية المحظورة، وليس أرقام جوازات السفر. وكان الرقم الموجود على بطاقتي الشخصية يبدأ بثمانية، مما يعني أنه كان مسموحًا لي بالسفر عبر ألمانيا، لكن الآن فات الأوان، فقد كنتُ بحاجة للصعود إلى الطائرة وإلا سأفوت رحلتي.
عندما هبطنا في العاصمة، اتصلت بالخطوط المتحدة. وأخبرني أحد الوكلاء أنه لا زال لدي حجز على رحلة لوفتهانزا إلى فرانكفورت. وسألتُ: “هل أنت متأكد؟”، فقد كانت بطاقة الصعود إلى الطائرة في يدي تشير إلى أثينا. للحظة، شعرت بالارتياح. كانت الساعة 5:20 مساءً، ورحلتي إلى فرانكفورت كانت مقررة في الساعة السادسة.
وعند البوابة؛ واجه موظفو لوفتهانزا مشكلة في طباعة بطاقة الصعود إلى الطائرة “الجديدة”. واتصلوا أيضًا بأحد المدراء، فأسرعتُ في سرد قصتي. وكنت محبطًا للغاية لدرجة أنني كنت أفكر في إلغاء الرحلة بأكملها. ثم قالت لي المديرة: “أخشى أنه يتوجب عليك الذهاب وإعادة تسجيل الدخول”. وأشارت إلى بطاقة الصعود إلى الطائرة الجديدة، حيث كان مكتوبًا عليها “اختيار الفحص الأمني الثانوي”.
أخبرتها، وأنا في حالة من الصدمة، أنني قد خضعت للفحص قبل ثلاث ساعات فقط. فقالت: “أنا آسفة، لا يمكنك الصعود إلى الطائرة بدون هذا”، وكانت الساعة قد أصبحت 5:33 مساءً.
كانت الاتجاهات إلى نقطة التفتيش في إدارة أمن النقل معقدة، لذا رافقتني موظفة لطيفة إلى هناك بينما كانت حقيبتي ترتد على ظهري مثل مطرقة الباب. وأكدت إحدى المشرفات في إدارة أمن النقل أنه سيتعين علي الخضوع للتفتيش مرة أخرى، وبدا أن الضابطة التي فتشت حقيبتي تلمس كل غرض فيها؛ أكياس الشاي، والأقلام، ودفتر الملاحظات، ومشط.
ووضعت يدها في كل جورب من جواربي، وكأنها تبحث عن شيء يبرر وجود “اختيار الفحص الأمني الثانوي” على تذكرتي. وتجمع حوالي خمسة موظفين من إدارة أمن النقل حولي وهم يراقبونني، وأدركت أن رحلتي قد دمرت بالفعل.
وبعد سبع عشرة دقيقة، ختم المشرف بطاقة الصعود إلى الطائرة أربع مرات باللون الأحمر. وعندما أخبرته بأنني عوملت بطريقة غير عادلة، أخبرني عن بوابة إلكترونية يمكنني تقديم شكوى عبرها. وعندما عدت إلى بوابة الصعود كانت الساعة 6:30 مساءً، وكانت الطائرة قد غادرت.
أعطتني الخطوط الجوية المتحدة خط سير جديد معقد يتضمن خمس رحلات: من سيراكيوز إلى واشنطن، ومن واشنطن إلى ميونيخ، ومن ميونيخ إلى فرانكفورت، ومن فرانكفورت إلى زغرب، ومن زغرب إلى سراييفو. كان موعد رحلتي التالية بعد منتصف الليل، وكافحت للبقاء مستيقظًا، فكرت في الاستسلام والعودة إلى سيراكيوز، فقد ضاع يوم من السفر هباءً، ولكنني ذكرت نفسي بالقراء الذين سألتقيهم في البوسنة، وتذكرت الحماس الذي سأحظى به عند توقيع كتابيَ الشعري باللغة البوسنية.
قبل ساعتين من الرحلة، طلبت بطاقة الصعود إلى الطائرة عند بوابة خطوط لوفتهانزا، ومرة أخرى، لم يتمكن الموظفون من طباعتها واتصلوا بالمدير، وعندما وصل بعد حوالي ساعة، سألني عما إذا كنت أحمل تأشيرة شنغن للسفر في الاتحاد الأوروبي.
سألته: “لماذا أحتاج إلى تأشيرة شنغن؟ أنا لا أقيم في بلد يحتاج إلى تأشيرة”.
فأجاب: “أنت بحاجة إلى تأشيرة شنغن لأنه لا يمكنك المرور عبر أكثر من بلد من بلدان الشنغن أثناء رحلتك”.
لم أصدق أن هذا يحدث، لقد أعطتني شركة الطيران مسار رحلة ممنوع عليّ السفر فيه. قلت: “عليكم أن تجدوا حلًا لهذا الأمر”. أمضيت اثنتي عشرة ساعة في رحلتي ولم أكن قد غادرت الولايات المتحدة بعد. كان المدير يبدو لطيفًا، ولكن بعد إجراء بعض الاتصالات استنتج أنه لن يُسمح لي بالصعود إلى الطائرة. قال لي : “ربما عليك أن تحاول العثور على رحلة لا تضطر فيها إلى العبور في منطقة شنغن”.
عندما اتصلت بشركة يونايتد وطالبت برحلة جديدة، قالت لي المرأة التي كانت على الطرف الآخر: “يمكننا أن نوفر لك رحلة إلى سراييفو، ولكن لا يمكنني أن أؤمن لك إقامة في فندق”. أوصلتني بمشرفها، فقلت له: “إن وظيفتك هي تتأكد ما إذا كان بإمكاني حجز الرحلة أم لا”.
وبقيت على الهاتف لمدة ست وثمانين دقيقة حتى الساعة 1:55 صباحًا، وكنت قد أوصلت هاتفي بمقبس الكهرباء حتى لا ينفد شحنه. قال المدير أخيرًا إن الرحلة الوحيدة التي يمكن أن تقلني إلى المهرجان في الوقت المناسب ستغادر إلى فيينا بعد أكثر من خمس عشرة ساعة، ولم تحجز لي شركة الطيران في فندق.
كنت محظوظًا لأن بوابتي الجديدة كانت بالقرب من مصلى صغير في المطار، فذهبت إلى الداخل ووجدت كومة من سجاجيد الصلاة في إحدى الخزانات. كانت الغرفة فارغة، فقمت بترتيبها على شكل وسادة وبطانية مؤقتة، واستلقيت ونمت نومًا متقطعًا لأكثر من اثنتي عشرة ساعة، قبل أن أذهب إلى البوابة، أديت كل الصلوات التي فاتتني.
هبطت في سراييفو في الساعة الثانية بعد الظهر من يوم 3 تموز/يوليو، بعد مرور أربع وأربعين ساعة على وصولي إلى مطار سيراكيوز.
ذكرتني سراييفو بغزة، فقد رأيت ثقوب الرصاص في جدران بعض المباني والحفر في عدد من الشوارع. وعادت بي ذكرياتي إلى سنة 2014، عندما قصفت القوات الإسرائيلية منزل جاري وأصلحت عائلتي الثقوب التي أحدثها القصف في منزلنا، وتذكرت اليوم الذي حوّلت فيه الغارات الإسرائيلية منزلنا إلى ركام في السنة الماضية.
قابلتُ العديد من الكتاب والفنانين خلال الأيام الأربعة التي قضيتها في سراييفو، ودعاني أحدهم لحضور مهرجان آخر هناك، وكان من المتوقع أن يحضره العديد من المصورين والفنانين من غزة. أخبرته في البداية أنني سأكون سعيدًا بالحضور، ثم فكرت في المطارات والتفتيش والأيام التي سأقضيها بعيدًا عن عائلتي، فغيرتُ رأيي.
عندما كتبتُ إلى محرر كتابي القادم عن مدى صعوبة الرحلة، قال لي: “ربما يجب أن نرتب لك فعاليات في المدن القريبة منك حتى لا تضطر إلى دخول المطارات”. كنتُ آمل أن يجعل السفر عالمي يبدو أكبر، لكنني شعرتُ بأنه قص أجنحتي.
ومما أدهشني أن رحلة العودة سارت بسلاسة، فلم يكن هناك “اختيار فحص أمني ثانوي” على تذاكري، وعندما قمت بتسجيل الدخول في مطار سراييفو، استغرق أحد الوكلاء بضع دقائق ليتأكد مع زميل له أنه يمكنني الصعود إلى الطائرة، ثم سمح لي بالعبور. وصلت إلى سيراكيوز حسب الموعد المحدد، وشعرت وكأنني هربت من شيء ما، واصطحبني أحد الأصدقاء من المطار.
في وقت لاحق، بحثت على الإنترنت عن تصنيف جوازات السفر من جميع أنحاء العالم؛ حيث احتلت جوازات السفر الإسرائيلية، التي تسمح بالسفر بدون تأشيرة إلى مائة وسبعين وجهة، المرتبة الثامنة عشرة على مستوى العالم، وكانت جوازات سفر الأراضي الفلسطينية، التي تسمح بالسفر بدون تأشيرة إلى أربعين وجهة فقط، في أسفل القائمة.
في الأسابيع التي تلت رحلتي، حاولت أن أفهم ما حدث لي. أخبرني صديقي حسن، وهو مواطن أمريكي أمضى معظم حياته في غزة، أنه يتم إيقافه بانتظام في المطارات وطرح أسئلة تطفلية عليه، على سبيل المثال، ما الذي يفعله في بلده الذي يحمل جنسيته، أو ما إذا كان يحمل سلاحًا، واتصلتُ أيضًا بثلاثة خبراء في مراقبة المسافرين.
أخبرتني المحامية شذى عبوشي دلال، وهي محامية في منظمة تعمل على مساءلة جهات إنفاذ القانون، ومقرها جامعة مدينة نيويورك، أن الحكومة الأمريكية تحتفظ بقائمة مراقبة تشمل المسافرين، وتطلق عليها اسم “قاعدة بيانات فحص الإرهابيين”، والجزء الأكثر شهرة في قاعدة البيانات هو قائمة الممنوعين من السفر. وقالت: “لكن هناك أيضًا قائمة المختارين”، والتي غالبًا ما يتم سحب الأشخاص المدرجين فيها من الطابور لإجراء فحوصات ثانوية، كما حدث معي.
وعرفتُ من فايزة باتيل، المديرة الأولى لبرنامج الحرية والأمن القومي في مركز برينان للعدالة، أن الخبراء أنفسهم لا يعرفون عدد قوائم المراقبة الموجودة أو كيفية إضافة الأشخاص إليها. ويمكن أن يخضع الشخص أيضًا لفحوصات ثانوية دون أن يكون مدرجًا في أي قائمة؛ فبعض المسافرين يتم إيقافهم بسبب المكان الذي سيذهبون إليه، أو لأن لديهم تذكرة ذهاب فقط.
بقيت أتساءل عما إذا تم إدراجي على القائمة لأنني من غزة، أو لأن الحكومة الإسرائيلية صنفتني خطأً بأنني تهديد. قالت دلال إن العديد من الفلسطينيين أبلغوا عن مشاكل في المطارات الأمريكية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وقالت لي باتيل: “هناك تبادل قوي في المعلومات الاستخباراتية بين إسرائيل والولايات المتحدة”. ولكن لم يكن لدينا أي طريقة لمعرفة ما إذا كان ذلك قد لعب دورًا في قضيتي.
ربطت ساهر سيلود، مؤلفة كتاب “مشتبه به إلى الأبد: المراقبة العرقية للأمريكيين المسلمين في الحرب على الإرهاب”، تجربتي بعهد بوش، عندما تم توسيع قاعدة بيانات الفحص. وذكرت أيضًا سياسة أخرى من تلك الفترة، وهي نظام الأمن القومي للدخول والخروج، والذي لم يعد موجودًا الآن؛ حيث تم إجبار الأشخاص من أربع وعشرين دولة ذات أغلبية مسلمة (وكوريا الشمالية) على التسجيل لأخذ بصماتهم وتصويرهم وإجراء مقابلات معهم، وقالت لي: “إذا كنت تتساءل عما إذا كان كونك فلسطينيًا جزءًا من هذا … بالطبع إنه كذلك”.
واصلتُ تفقد الموقع الإلكتروني الذي تقوم من خلاله وزارة الأمن الداخلي، التي تشرف على وكالة أمن النقل، بمراجعة الشكاوى. ولمدة عشرة أسابيع، كانت قضيتي “قيد النظر”، ثم أرسلت مجلة “نيويوركر” إلى وكالة أمن النقل أسئلة حول تجربتي، وبعد ساعتين ونصف، تلقيت “رسالة تحديد نهائي” من وكالة أمن النقل قالت في جزء منها إن بعض عمليات الفحص في المطار عشوائية، وأن الوكالة “لا يمكنها تأكيد أو نفي أي معلومات عنك قد تكون ضمن قوائم المراقبة الفيدرالية”.
وأشارت الرسالة إلى أن “الأنظمة تحتوي على معلومات من مصادر فيدرالية وحكومية ومحلية وأجنبية”، والتي قد تؤدي في بعض الأحيان إلى حدوث الخطأ في تحديد هوية المسافرين، وقالت أيضًا إن الوكالة “أجرت تصحيحات على السجلات التي خلصت تحقيقاتنا إلى أنها ضرورية، بما في ذلك، حسب الاقتضاء، الملاحظات التي قد تساعد على تجنب حوادث الخطأ في تحديد الهوية”.
وردًا على أسئلة مجلة نيويوركر، قال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي: “نحن لا نعلق على المعلومات التي يتم تبادلها بين إسرائيل وشركائها الاستراتيجيين”. وشاركت وكالة أمن النقل الأمريكية معلومات أساسية حول عمليات الفحص الثانوية، وقالت: “تعمل إدارة أمن النقل الأمريكية بشكل وثيق مع مجتمعات الاستخبارات وإنفاذ القانون لتبادل المعلومات”، لكنها رفضت التعليق على تجربتي في المطار.
في يوم جمعة من شهر آب/أغسطس، كنتُ في المنزل في سيراكيوز عندما رن جرس الباب. كان الأطفال يلعبون في الخارج، وسمعتُ صوت رجل يسألهم: “هل والدكم في المنزل؟”، ووجدتُ أنا ومرام رجلين عند الباب. ظننت للحظة أنهما يعملان في المنطقة التعليمية التي كنا نحاول تسجيل الأطفال فيها، ثم رأيت أن أحدهما كان معه شارة ومسدسًا، وقال: “مرحبًا، نحن من المباحث الفيدرالية”.
أخبرني أحد العملاء أنه سمع عن تجربتي مع إدارة أمن النقل في مطار لوغان، وسألني عما إذا كان لدي بضع دقائق للتحدث عن ذلك. ظلوا واقفين بينما كنت جالساً على الأريكة، ودوّن أحدهم ملاحظات على دفتر صغير. أخبرتهم عن تجربتي في المطار، ثم بدأوا يسألونني عن مجموعة واسعة من المواضيع الأخرى: كيف كان شعورنا تجاه الحي، وماذا فعلنا في مصر وقطر، وكيف كانت حياتنا في غزة، ثم سألوني عن “تفاعلي” مع الجيش الإسرائيلي.
أخبرتهم أنني سبق أن وصفت تجربتي في هذه المجلة وعلى قناة “سي إن إن”، لكنهم أرادوا أن أتحدث عن ذلك. كنتُ قد بدأت في شرح كيف تم وضع عصابة على عيني وتقييد يدي عندما أدركت أن يزن كان يجلس بجانبي، لم أكن أريده أن يختبر ألمي مرة أخرى، لذلك أرسلته إلى الطابق العلوي قبل أن أكمل.
شرحتُ له أنني فقدت واحدًا وثلاثين فردًا من أفراد عائلتي الممتدة في غارة جوية واحدة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وأن قناصًا إسرائيليًا قتل أحد أعمام مرام خارج ملجأ في مدرسة، وفقدنا أنا ومرام أحد أجدادنا بسبب الأمراض التي تفاقمت بسبب الظروف في غزة، وأن العديد من أقاربنا يعيشون الآن في الخيام. كان لدي شعور بأنهم لم يأتوا لسؤالي عن تجربتي في المطار.
بعد مرور ساعة تقريبًا، سألني أحد العملاء إذا كان لديّ أي أسئلة أو استفسارات أو إذا كنت أرغب في إخبارهم بأي شيء، وأرسل لي رسالة نصية ودعاني للتواصل معهم. قبل أن يغادروا، طلبت منهم المساعدة في شكواي لدى إدارة أمن النقل، أو في إزالة اسمي من أي قائمة مراقبة قد أكون عليها، قالوا إنهم لا يستطيعون المساعدة مع الوكالات الحكومية الأخرى، أعطوني بطاقة عمل بدون اسم لمكتب المباحث الفيدرالية المحلي وغادروا.
نزلت مرام إلى الطابق السفلي مع يزن، وتناولنا الغداء معًا، لكنني لم أستطع الاستمتاع به. أخبرتني أنه عندما أرسلتُ يزن إلى الطابق العلوي، سألها “هل سيأخذون أبي؟”. وعندما سألت مجلة نيويوركر مكتب التحقيقات الفيدرالي عن تجربتي، رفض متحدث باسمه التعليق على المكان الذي حصل منه العملاء على اسمي أو سبب زيارتهم لي.
قبل سنتين، كتبتُ على فيسبوك أنني كنت في القاهرة لإجراء مقابلة للحصول على تأشيرة، ورأى صديقي أحمد منشوري، فراسلني قائلاً: “أنا في مصر أيضاً”، قضينا بضعة أيام بالصدفة معًا. أحمد من عشاق الطعام، وفي ظهيرة أحد الأيام التقينا لتناول الغداء في مطعم يطل على النيل، وفي يوم آخر، سافرنا معًا إلى البحر الأحمر، كنا فلسطينييْن ذاهبين لاستكشاف مكان كان عادةً بعيد المنال.
في وقت سابق من هذه السنة، كتبتُ إلى أحمد في غزة وقلت له: “لقد خطرت ببالي بالأمس. هل تذكر الوقت الذي قضيناه معًا في السويس في الصيف قبل الماضي؟ كيف حالك؟”
قال مازحًا: “أنا أقوم مثلك ببعض الرحلات. لكنني أقوم بها من ملجأ مدرسي إلى آخر”. لقد كان مؤخراً في رفح؛ حيث لجأ أكثر من مليون نازح فلسطيني، وحاول جمع المال اللازم لمغادرة غزة مع عائلته. ثم اجتاحت القوات الإسرائيلية رفح، وأغلقت الحدود وشردت العديد من العائلات مرة أخرى. وفي أواخر شهر آب/أغسطس، كان أحمد يعيش في خيمة مع زوجته وأطفاله الثلاثة في حي المواصي في خان يونس، وهو خامس مكان يقيمون فيه خلال السنة الماضية.
يبدأ أحمد يومه في السادسة والنصف صباحًا كل يوم، وقال لي: “لا يمكنك أن تنام لحظة واحدة بعد ذلك بسبب الذباب في الخيمة”. يقف أحمد في طابور لشراء الخبز بينما تقوم زوجته بإعداد وجبة الإفطار، والتي عادةً ما تكون من الأطعمة المعلبة. قال أحمد: “لإعداد الشاي، يجب أن أجد شخصًا آخر قد أشعل النار”، ثم يقضي حوالي ساعة ونصف الساعة في انتظار ملء دلاء الماء، ويظهر في الصور أنحف بكثير مما أتذكر.
لطالما حلم أحمد باصطحاب زوجته وأطفاله في رحلة إلى مصر وأبعد من ذلك، أن يركب معهم في القطارات، وأن يجرب معهم المطاعم والمقاهي، وأن يلتقط صوراً لأماكن جديدة. أما الآن فهو يحلم بالحصول على جنسية أخرى حتى يتمكن من الهرب في مثل هذه الأوقات؛ إنه لاجئ وليس مسافر، قال لي: “لقد فقدت الأمل في أن نعود إلى حياتنا السابقة. أشعر أننا سنبقى لاجئين إلى الأبد”.
المصدر: نيويوركر
]]>خلال السنوات الماضية كرّس نظام الأسد اهتمامه بقطاع السياحة، عبر إطلاق مشاريع استثمارية واستقطاب مشاهير التواصل الاجتماعي، كما أن المتابع لعمل حكومة الأسد يرى أن وزير السياحة محمد رامي مرتيني يعتبر من أنشط الوزراء، من خلال جولاته على المنشآت السياحية وتصريحاته ودعواته المتكررة لزيارة سوريا.
لكن ما ينشره إعلام نظام الأسد ومدونون أجانب عبر قنواتهم في يوتيوب، بعودة الحياة الطبيعية وأن سوريا تعيش حالة أمان، يخالف ما يجري على الأرض كون صنّاع المحتوى يرافقهم مرشدون (دليل سياحي) تابعون للنظام لترويج ونشر الرواية التي يريدها، الأمر الذي يبرز التناقض الكبير بين الدعاية الرسمية والواقع المأساوي في البلاد.
منذ استعادة النظام السوري سيطرته على مناطق واسعة من البلاد، أطلق حملة ترويجية مكثّفة لجذب السياح، واعتمد استراتيجية تقوم على عدد من الخطوات، الأولى تقديم تسهيلات تشمل تخفيضات ضريبية وتسهيلات إدارية للمستثمرين، ودعم المشاريع السياحية الجديدة.
وأثار الاهتمام بقطاع السياحة على حساب القطاعات الأخرى استنكار خبراء اقتصاد، حيث قالت صحيفة “البعث” التابعة للنظام عام 2022 إن “متابعين وخبراء الاقتصاد استنكروا الضخ والتوسع في المشاريع السياحية في وقت تغلق فيه منشآت هامة، ويتعطل عمل أخرى بانتظار المحروقات والطاقة لتشغيلها”.
ونقلت الصحيفة عن الخبير الاقتصادي عامر شهدا، أن التركيز يجب أن يكون “لإيجاد حلول للوضع الاقتصادي والاجتماعي، أما السياحة فهي مجرد تفصيل. فرغم أهمية القطاع وتحقيقه موارد وفرص عمل، وانعكاساته الاقتصادية، لكن يوجد أولويات ومقومات لنجاح ملتقى السياحة، أهمها استقرار المواطن من خلال معالجة مشكلاته الاقتصادية”.
وأضاف أن “الاستقرار الاجتماعي يشجّع السياحة، أما تأمين مكان لإقامة أجنبي بغياب سكن للمهجر عن منزله، فهذا ضرب من الخيال ومجرد بروباغاندا”.
وكجزء من استراتيجيته الترويجية، قام النظام السوري بنشر تسجيلات فيديو عن السياحة في سوريا، سلطت الضوء على المواقع الأثرية والتاريخية والطبيعية التي تتمتع بها البلاد، محاولة منه لإبراز الجانب الإيجابي والجذاب لسوريا.
وفي إحدى الخطوات اللافتة التي قام بها النظام في حملته الترويجية هي استقدام مجموعة من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، العرب والأجانب، حيث تمّت دعوتهم لزيارة سوريا، كما اعتمد على شركات سياحية تحت قبضته الأمنية للترويج للسياحة واستقطاب الأجانب والعرب السياح.
وأكد معاون وزير السياحة غياث الفراح في إحدى المقابلات عام 2023، أن “هؤلاء (اليوتوبرية) بحدّ ذاتهم أكبر ترويج للقطاع السياحي”.
في مقابلة مع السائح بنجامين أجراها معه الرحال سيمون ويلسون، قال إنه تلقى دعوة من شخص يُدعى أيوب عبر صفحته على انستغرام، يسأله عن رأيه في زيارة سوريا بغرض السياحة، حيث قال له: “هل ترغب في القيام بجولة في سوريا؟ أعتقد أنك ستستمتع بها”، أي أن سوريا لم تكن خيارًا لبنجامين لزيارتها، بل كانت اقتراحًا من طرف النظام السوري الذي جهّزه بكل لوازم الزيارة.
ويلاحظ المتابع للتسجيلات التي نشرها هؤلاء المدونون على قنواتهم الخاصة، توجّههم نحو نفس المناطق والمسارات السياحية، حيث يبدأون بزيارة الأسواق الشعبية، وعرض حياة الناس اليومية وتصوير الأجواء الآمنة، مما يعطي انطباعًا بأن الحياة تسير بشكل طبيعي ولا يوجد ما يدعو إلى القلق، مع تكرار “تعالوا لقضاء عطلة الصيف القادمة في سوريا”.
بعد ذلك، ينتقل اليوتيوبرز إلى المناطق الأثرية والمناطق ذات الأغلبية المسيحية، حيث يقومون بتصوير المعالم التاريخية والدينية، مسلطين الضوء على الإرث الثقافي والتاريخي الغني لسوريا، كل ذلك وسط الترويج لدعاية النظام السوري التي تزعم أن الإرهاب هو من استهدف هذه المناطق.
المدون الإسباني جوان توريس كان أحد المدونين الذين زاروا سوريا، وهو صاحب موقع Against The Compass ينظم فيه رحلات سياحية إلى عدد من الدول بمبالغ كبيرة مقارنة بمتوسط المعيشة في سوريا، حيث بلغت أسعار بعض الرحلات 2390 يورو لمدة 13 يومًا فقط، خارج الدفعات التي تتضمن التأشيرة أو الموافقات الأمنية.
يذكر الموقع أن الحصول على التأشيرة أمر بسيط جدًّا، لكن هو أمر لا يمكنك القيام به بمفردك، لأن وزارة السياحة تفرض على جميع المسافرين الذين يرغبون بالحصول على التأشيرة السياحية في سوريا، حجز جولة سياحية مع إحدى الشركات السياحية.
وحسب الموقع، فإن “الشركات السياحية لن تصدر تأشيرة سياحية لسوريا لكن تصريحًا أمنيًا فقط، والذي ستحتاج إبرازه عند نقطة الجمارك، حيث يعتبره بمثابة دعوة للزيارة”.
يوضح الشاب في الموقع كل العقبات التي يجب على السائح معرفتها أثناء زيارته لسوريا، لكن رغم ترويجه لأمان سوريا إلا أنه يفضّل للقادمين الطريق البري عن الطريق الجوي، لأن مطار دمشق يخرج عن الخدمة (بسبب القصف الإسرائيلي المتكرر)، مشيرًا إلى أن احتمال إلغاء الرحلات الجوية مرتفع، من دون ذكر أي أسباب لإلغائها.
ويضيف: “بعد حصولك على ورقة التصريح الأمني يمكنك الحصول على التأشيرة السياحية من نقطة الحدود”، مشيرًا إلى أن “المشكلة هي عدم السماح لوكالات السفر بإصدار تصريح أمني إلا إذا قمت بحجز جولة معهم”.
وقال توريس لصحيفة “الغارديان” عام 2022، إنه “تمكن من السفر إلى سوريا بمفرده في المرة الأولى التي زارها في عام 2018، رغم أن الحكومة طلبت لاحقًا من السياح السفر مع مرشد”، مضيفًا: “لن أقول أي شيء سيّئ عن الحكومة، بالطبع، لأنني أخاطر بالاعتقال”.
وشارك توريس بعض الصور من الرحلات السياحية التي نظمها عبر موقعه إلى سوريا، ومنها صور لشبّان يعتلون دبابة حربية تعود للجيش السوري في مدينة تدمر على أنها أحد المعالم السياحية.
خلال عام 2023 زار سوريا أشخاص من جنسيات مختلفة بهدف السياحة، يزعم بعضهم أنها “سوريا التي لن تظهرها لك وسائل الإعلام”، كما يروج اليوتيوبر البريطاني بنجامين ريتش على قناته “Bald and Bankrupt”، حيث قال الشاب ومرشده أثناء مرورهما بالقرب من مدينة إدلب إنها منطقة يسيطر عليها “متطرفون إسلاميون”، دون ذكر أنها منطقة يعيش فيها ما يقارب 5 ملايين سوري.
كما زار اليوتيوبر التركي ميرت أوزتورك سوريا في أبريل/ نيسان 2024، وذكر في الفيديو أن سوريا مصنَّفة ضمن أخطر 10 بلدان في العالم، ومع ذلك زار أكثر من 5 مدن سورية واستمر بتشجيع السياحة إليها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الشركات السياحية التي تنظّم الرحلات تطلب من القادمين عدم مغادرة المجموعة التي ينتمون إليها، حتى لا يتسبّبوا في مشاكل للسياح الآخرين. على هذه الخلفية تم اعتقال سائح ألماني لمدة أسبوع، بسبب انحرافه عن الفريق لتصوير أحد الأبنية المدمرة في ضواحي دمشق.
في محاولة لإظهار التعافي والازدهار في قطاع السياحة، قام النظام السوري بنشر إحصائيات تشير إلى ارتفاع عدد السياح الوافدين إلى مناطقه خلال الأشهر الماضية، وحسب هذه الإحصائيات الرسمية فإن عدد الزوار ارتفع بشكل ملحوظ.
ويستخدم النظام هذه الإحصائيات كأداة رئيسية في حملته الإعلامية لترويج صورة سوريا كوجهة سياحية آمنة ومستقرة، لكن العديد من المراقبين والمحللين يشكّكون في مصداقية هذه الإحصائيات، معتبرين أن الأرقام التي يقدمها النظام مبالغ فيها ولا تعكس الواقع الحقيقي على الأرض.
وحسب بيانات وزارة السياحة في حكومة الأسد من مطلع العام الجاري وبداية الشهر الحالي، بلغ عدد القادمين إلى سوريا أكثر من مليون شخص، بزيادة قدرها 5% عن الفترة نفسها من العام الماضي، منهم 894 ألفًا من العرب و108 آلاف من الأجانب.
وكشفت الإحصائيات أن عدد القادمين العراقيين كان لافتًا، حيث وصل 205 آلاف شخص بزيادة مقدارها 55% عن الفترة نفسها من عام 2023، بالإضافة إلى الجنسية اللبنانية تليها الأردنية والبحرينية، في حين “تصدّر القدوم من ألمانيا القدوم الأجنبي، يليه السويد والولايات المتحدة وروسيا، وبأرقام متقاربة إيران وباكستان وهولندا والهند وتركيا وكندا”.
في عام 2020 شكّك تقرير لصحيفة “ديلي بيست” عن إحصائيات نظام الأسد وأرقام السياح، حيث نقلت عن أحد منظمي الرحلات السياحية في دمشق قوله إن “أرقام الحكومة مبالغ فيها على الأرجح، حيث تحسب أي شخص يعبر الحدود، لأي سبب، على أنه سائح”.
ولا تقتصر السياحة في سوريا على الاستجمام أو زيارة الأماكن التاريخية فحسب، فقد نشطت السياحة دينية، خاصة من الطائفة الشيعية القادمة من العراق وإيران لزيارة مقام السيدة زينب والسيدة رقية سنويًا.
ويهدف النظام من خلال تحسين صورة سوريا كوجهة سياحية لاستقطاب الزوار والمستثمرين من مختلف أنحاء العالم لرفع الإيرادات السياحية، في ظل حاجة النظام الماسّة إلى رفد خزينته بالأموال، في محاولة لتعزيز الاقتصاد المتدهور.
وكان القطاع السياحي قبل عام 2011 من أكبر مصادر العملة الأجنبية للنظام، حيث قُدّرت وارداته في عام 2010 بنحو 8.21 مليار دولار، بما يعادل 13.7% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وحسب مقابلة أجراها موقع “بيننا” مع سائحة إسبانية زارت سوريا عام 2022، قالت فيها: “نُظِّمت الرحلة من خلال مكتب للخدمات السياحية. لم يقبل المكتب الدفع إلا بالدولار (دفعت ماريا ما قيمته 1700 دولار)، واشترطوا عليّ الدفع نقدًا بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على نظام الأسد منذ اندلاع الأحداث في سوريا”.
في ظل الترويج المكثف الذي يقوم به النظام السوري لصورة البلاد كوجهة سياحية آمنة، تصاعدت دعوات بعض الدول في الاتحاد الأوروبي لترحيل اللاجئين السوريين إلى وطنهم، بناءً على الادّعاءات بتحسن الأوضاع الأمنية.
وأكّد مسؤول السياسية الخارجية في الاتحاد جوزيب بوريل، خلال مؤتمر بروكسل في مايو/ أيار الماضي، أن ظروف عودة اللاجئين الطوعية والآمنة إلى وطنهم ليس مهيَّأة، كما انتقدت منظمة هيومن رايتس ووتش ترويج عدد من دول الاتحاد لفكرة وجود مناطق آمنة في سوريا.
وقالت المنظمة في بيان لها إن “حكومة الرئيس بشار الأسد في سوريا هي من يمارس الاضطهاد، صحيح أنها لا تتمتع بسيطرة فعلية على كامل البلاد، لكن لا توجد منطقة آمنة في أي مكان في سوريا، سواء كانت خاضعة لسيطرة الحكومة أم لا”.
كما حصلت مدينة دمشق على أسوأ مرتبة للعيش في سوريا لعام 2024، بحسب مؤشر صادر عن مجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية، الذي استند إلى 5 فئات هي الرعاية الصحية والثقافة والبيئة والاستقرار والبنية التحتية والتعليم.
واعتبر مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديثه لـ”نون بوست”، أن “سوريا من أخطر دول العالم، ولا نشجّع أي أحد على زيارتها بقصد السياحة”.
وقال عبد الغني: “بعض الفيديوهات التي ينشرها أشخاص، أعتقد أن قسمًا منهم مدفوع من قبل النظام السوري أو جهات معينة ليقوموا بالترويج للسياحة، وبعضهم تمّ استدعاؤهم من قبل جهات موالية للنظام كروسيا، وظهر بعض الأشخاص المحسوبين على روسيا وقاموا بنشر فيديوهات لتشجيع الناس على العودة إلى سوريا بوصفها آمنة”.
ووفقًا لإحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ففي النصف الأول من عام 2024 تمّ تسجيل ما لا يقلّ عن 1236 حالة احتجاز تعسفي، منها 217 حالة في شهر يونيو/ حزيران فقط، وما لا يقلّ عن 126 حالة منها على خلفية الإعادة القسرية.
كما تم توثيق مقتل 429 مدنيًا تحت التعذيب في المعتقلات في النصف الأول من العام 2024، منهم 10 ضحايا في شهر يونيو/ حزيران.
يضيف عبد الغني أن الانتهاكات التي يتعرض لها العائد إلى سوريا هي الانتهاكات نفسها التي يتعرض لها المقيم، طالما أن الانتهاكات بحقّ المقيمين موجودة فستكون ممارسة بشكل أكبر على العائدين.
السوريون ليسوا الوحيدين المعرّضين للاختفاء القسري، فقد اختفى شابان أردنيان قصدا سوريا للسياحة في العالم الفائت في ظروف مجهولة عقب تجاوزهما الحدود السورية، ولم يتم الإفراج عنهما أو معرفة أي معلومات عنهما حتى الآن.
كما أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن وفاة الطبيب الأمريكي مجد كم الماز في معتقلات النظام، بعد اعتقاله عقب عودته لزيارة سوريا.
دخل الطبيب مجد إلى الغوطة الشرقية بهدف إنشاء مركز للدعم النفسي عن طريق أحد المنسقين، لكن لم يعلم الطبيب أن هذا المنسق يتعامل بشكل سرّي مع الأمن السياسي التابع للنظام السوري، فاُعتقل الطبيب عن طريق كمين في منطقة برزة عام 2017.
ورغم جهود النظام السوري المكثفة للترويج لسوريا كوجهة سياحية آمنة، إلا أن تقارير حقوق الإنسان تؤكد استمرار الانتهاكات والاضطهاد، مما يعكس تناقضًا كبيرًا بين الدعاية والواقع الفعلي على الأرض.
]]>“الباساج” هي كلمة من بين 5 آلاف كلمة فرنسية تمَّ استيعابها في اللغة التركية العثمانية، حيث بدأت تستخدَم في تركيا بعد نصف قرن من ظهورها في باريس، و”الباساج” عبارة عن ممر ضيق ازدهر مطلع القرن الـ 20، يمرّ عبر البنايات ويربط بين الشوارع والأزقة، وما زال يعجّ بالحياة حتى الآن، حيث يمتلئ بمحال الملابس والورود، وبالمطاعم والمقاهي والحانات.
يتميز “سوريا باساج” بواجهة كلاسيكية فريدة تحمل خصائص العمارة اليونانية والرومانية والفرنسية، تمَّ البدء ببنائه عام 1901 من قبل تاجر الأقمشة السوري حسن حلبوني باشا، وقريبه محمد عبود باشا، الذي كان رئيس غرفة تجارة إسطنبول في ذلك الوقت، وقد كلّفا المهندس المعماري اليوناني ديميتري باسيلاديس بتصميم المبنى، واستغرق ذلك 8 سنوات.
إذًا، سُمّي الممر الإسطنبولي بـ”سوريا باساج” تيمّنًا بالتجار السوريين الذين وجّهوا ببنائه، خاصة أنهم اشتهروا بنزاهتهم وكانوا محل تقدير في تركيا ودول البلقان، حيث اشتهرت عائلة الحلبوني بصناعة وتجارة الأنسجة الحريرية، ونقلوا تجارتهم بين بلاد الشام ومصر وإسطنبول، لتنشط تجارتهم فيما بعد في جميع أرجاء الممالك العثمانية.
يلفت “سوريا باساج” الانتباه بنسيجه التاريخي العريق، حيث يربط شارع الاستقلال بشارع تيموني “شارع غونول” سابقًا من جهة، وشارع الدراويش من جهة أخرى، تحيط بالمدخل أبواب رائعة من الحديد تزينها قنطرة مزخرفة تؤدي إلى رواق فسيح، يتكوّن “الباساج” بالعموم من 3 مبانٍ منفصلة، وبمرور الوقت تمَّ ربط المباني ببعضها عن طريق الجسور وأخذت شكلها الحالي.
يحوي “الباساج” ما يقرب من 38 متجرًا و42 شقة، ويتألّف من 6 طوابق باستثناء الطابق الأرضي، وتمَّ تصميم الطابق السفلي ليكون بمثابة بازار يعجّ بالمتاجر، والأجزاء العلوية كمساكن تزينها النوافذ ذات الأقواس المثلثية.
ربما يعرف القليل منا أن “سوريا باساج” رافق التطور الحضاري والتقني لمدينة إسطنبول على مرّ أجيال عديدة، لما كان يتمتّع به من موقع استراتيجي وأهمية خاصة، وبحسب الكاتب التركي كورتولوش تورغاي، كان أول مبنى بعد القصر الرئاسي تصله الكهرباء وكذلك الغاز، كما شهد تطبيق نظام المصعد المزدوج لأول مرة في إسطنبول، واستضاف على مرّ أكثر من قرن من الزمن شخصيات وعائلات مرموقة تنتمي إلى ثقافات مختلفة.
“سوريا باساج” له أيضًا تاريخ وثيق الصلة بعالم الفن، حيث شهد افتتاح أول سينما في تركيا، “سينما سنترال”، فضلًا عن احتوائه على مقرّ الجريدة اليونانية “أبويفماتيني” التي تأسّست عام 1925، كذلك يبرز فيه محل الثياب القديمة النادرة الأشهر في المدينة By Retro، حيث يجذب عشاق العصور القديمة، فضلًا عن صانعي السينما والدراما التاريخية، ويزوّدهم بالأزياء الكلاسيكية المميزة، إذ يعرض أزياء غريبة وأخرى تقليدية تعود لحقبة الثلاثينيات، ومن الممكن أن تجدَ لديه فساتين الزفاف الملكية، والملابس العسكرية القديمة، والبدلات الرسمية، وكذلك القبّعات والأوشحة وربطات العنق.
رغم مرور السنوات، بقيَ “سوريا باساج” يحافظ على هيبته ورونقه وسط زحام حي بيوغلو وشارع الاستقلال، حتى لو تمَّ نسيانه قليلًا، لا سيما أنه ترك بصمته عبر التاريخ، فعادة ما يتوقف أولئك الذين يرغبون في شراء السجلّات القديمة عند “سوريا باساج”، أو أولئك الذين يودون زيارة محلات الجلود والفراء والإكسسوارات.
كذلك تنتشر في “سوريا باساج” اليوم بعض مكاتب المحاماة ومحلات الحلويات التقليدية، فضلًا عن ورش العمل الفنية والمكتبات، ولا بدَّ لزائره الجلوس في المقهى التقليدي، والاستمتاع بتناول كأس من الشاي التركي على أنغام الموسيقى التراثية في رحلة خارج الزمن، بعيدًا عن عصر السرعة الذي بات يعدّ شارع الاستقلال خير مثال عليه.
وفي معرض الحديث عن ثقافة بناء “الباساج” في إسطنبول، يوجد ما لا يقلّ عن 14 ممرًّا اليوم في شارع استقلال، ومن الباساجات الشهيرة في الشارع “تشتشيك باساج” أو ممر الورود، الذي بُني على أنقاض أول مسرح تركي عام 1844، وكانت تقام فيه الاستعراضات بحضور السلاطين والأمراء.
وأخذ “تشتشيك باساج” تسميته الحديثة في عهد الجمهورية التركية، عندما أصبح شارعًا لبيع الزهور بكل أنواعها وأصنافها، حيث كانت النساء من طبقات النبلاء تأتي خصيصًا للحصول على الزهور من الممر.
أيضًا يعدّ “أصليهان باساج” من الممرات المميزة في شارع الاستقلال، يقصده غالبًا محبّو الكتب القديمة، حيث يعرَف باسم بازار الكتب المستعملة، وهو من أهم أسواق إسطنبول للكتب، ويتألّف “أصليهان باساج” من طابقَين، يحتوي كلاهما على الكتب والمجلات والرسوم الهزلية والملصقات المستعملة.
كذلك يحتوي العشرات من المحلات التجارية والمكتبات التي تغطّي كل شيء، عن أساطير الأناضول والروايات الخيالية وكتب الفن المعاصر.
وشارع الاستقلال من أشهر الشوارع التجارية في تركيا بشكل عام وإسطنبول بشكل خاص، يزوره يوميًّا ما يقارب 3 ملايين شخص بقصد التسوق والتنزُّه، ولا تهدأ فيه الحركة على مدار الساعة.
ويحتضن الشارع الذي يمتدّ إلى نحو 1.5 كيلومتر الكثير من المباني الأثرية ومحال الملابس والمكتبات ومتاجر الموسيقى والمعارض الفنية ودور السينما والمسارح والمقاهي، ويمرّ فيه مترو قديم يعود تاريخه إلى العهد العثماني.
]]>تستعرض تلك المقاطع المصورة “الأجواء الآمنة” في سوريا الأسد، ضمن بروباغندا ممنهجة تهدف إلى استجلاب السياح من بلدان عربية وأجنبية، متجاهلة الواقع الأمني المرعب الذي يهيمن على البلاد بطولها وعرضها، والظرف الاقتصادي القاسي.
ورغم أنه يصعب إثبات ضلوع جميع السياح والمؤثرين الذي يقدمون إلى سوريا ويصوّرون “الحياة الجميلة” فيها بأنهم يخدمون عمدًا وعن سابق إصرار نظام الأسد، لكنهم يقدمون لجمهورهم الصورة (البروباغندا) التي يريد بشار ونظامه إقناع العالم بها، بقصد أو بدون.
كرّست حكومة النظام السوري خلال العامَين الماضيَين جهودها لدعم المشاريع السياحية في عدد من مناطق البلاد، من خلال إعادة تأهيل الفنادق والمنتجعات والمطاعم في القطاعَين العام والخاص، ودعم المستثمرين وتقديم تسهيلات لتنفيذ مشاريع استثمار سياحية.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أطلقت وزارة السياحة ملتقى الاستثمار السياحي في العاصمة دمشق، وطرحت خلاله نحو 25 مشروعًا معدًّا للاستثمار السياحي في البلاد، بهدف تأسيس رؤية جديدة للترويج الاستثماري للمباني والمواقع والأراضي المعروضة للاستثمار السياحي، أمام المستثمرين الوطنيين والمغتربين العرب، حسب ما نقلت وكالة “سبوتينك” عن وزير سياحة النظام محمد مرتيني.
كما أعادت وزارة السياحة تأهيل عدد من المواقع السياحية الساحلية خلال العام الحالي، من بينها شاطئ الكرنك الغربي في طرطوس، إضافة إلى تطوير موقع منتجع لابلاج العائلي في وادي قنديل بمحافظة اللاذقية، إضافة إلى شاطئ حميميم، فضلًا عن تطوير محيط منتزه الجولان السياحي على سدّ المنطرة في القنيطرة.
لكن تلك الجهود والمساعي، لم تمنع تعرّض سياح للاحتيال من قبل الأدلّاء السياحيين وشركاتهم، تلك الشركات التي تروّج لفنادق ومنتجعات سياحية وتكاليف إقامة رخيصة، فيما تختلف أماكن الحجوزات وتكاليف الرحلات عمّا ذُكر في الإعلانات.
الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، يرى أن مقومات السياحة غير متوفرة في سوريا، رغم المساعي الحثيثة لتوفيرها من قبل حكومة النظام، إذ تبدو أقل ممّا هي عليه، وسرعان ما تنكشف تلك الهالة الإعلامية فور وصول السائح إلى البلاد.
وقال السيد عمر في حديثه لـ”نون بوست”: “إن قلة المحروقات تعدّ عقبة رئيسية في وجه السياحة، فضلًا عن مشكلة النقل التي تعاني منها البلاد أساسًا، وإصدار بطاقة إلكترونية خاصة بالسياح لتعبئة الوقود آلية غير عملية، كون محطات الوقود المخصّصة للسياح محدودة”.
وأضاف: “يوجد مشكلة كبيرة تهدد قطاع السياحة، رغم هدوء الوضع العسكري، لا يزال الوضع الأمني غير مستقر بشكل كافٍ، في ظل تعدد مشارب الميليشيات وفرض سطوتها”.
تنتشر في المحافظات السورية ميليشيات إيرانية ولبنانية ومحلية، شاركت إلى جانب النظام في قتل السوريين المعارضين له، تحولت لاحقًا إلى ميليشيات تنشط في تجارة المخدرات والبشر، لا سيما في المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة السورية سابقًا، مثل أحياء حلب الشرقية وريف دمشق وحمص ودير الزور وحماة.
ويعدّ وجود الميليشيات سببًا رئيسيًّا في تردي الواقع الأمني ومضاعفة الجريمة وانتشارها، مع زوال الدور الفعلي لمؤسسات الدولة، ما جعلها تقوى على أن تكون ذات فاعلية تحقق مكاسبها دون الحاجة إلى داعميها، ما يهدد السكان أولًا والسياح خلال تعرضهم لمخاطر عديدة، على رأسها الاختطاف والاختفاء.
حذرنا مرارًا من مغبة تصديق يوتيوبرز يروجون للسياحة في سورية بهدف تجميل صورة النظام .
راكان أبو يوسف فلسطيني من بلدة صانور جنوب جنين، ذهب إلى سوريا قبل عيد الأضحى بغرض السياحة وبعد دخوله الحدود انقطعت أخباره. #لاتطلعوا_على_سورية pic.twitter.com/HSxV1nOF2T— Mahmoud Zaghmout (@MDZaghmout) July 16, 2023
وبحسب رصدَ “نون بوست”، فإنّ المرسسات الأمنية شاركت بدورها في إسارة معاملة السياح، عبر اعتقالهم أو خطفهم رغم أن جنسياتهم غير سورية.
ويضطر السياح، مثل السوريين، إلى دفع أموال عبر أقاربهم للمؤسسات والميليشيات ذاتها مقابل خروجهم من المعتقلات ومغادرة الأراضي السورية، بيد أنه لا يمكن سوقهم إلى الخدمة العسكرية الإلزامية.
وفي 27 يونيو/ حزيران، فُقد الاتصال بشابَّين أحدهما أردني يدعى علي عماد الفتياني، والثاني فلسطيني يحمل الجنسية الأردنية يدعى راكان رشاد محمود، في ساحة السبع بحرات في العاصمة السورية دمشق، بعد ساعات من دخولهما البلاد بهدف السياحة، حسب ما كشف موقع “أخبار الأردن” في 10 يوليو/ تموز.
ذهب إلى “سوريا الآمنة” للسياحة فاختفى منذ عيد الأضحى حتى الآن.. والد شاب أردني يروي تفاصيل اختفاء ابنه من قلب #دمشق وتقاعس النظام السوري والأردني عن مساعدته#سوريا_ليست_آمنة_للسياحة pic.twitter.com/i0lbmt5svx
— نون بوست (@NoonPost) July 18, 2023
ونقل الموقع عن شقيق الشاب الأردني، أن شقيقه اُختطف من قبل ميليشيات مسلحة في العاصمة السورية دمشق، ما دفع والده إلى الذهاب إلى سوريا بعد مراجعة وزارة الخارجية الأردنية، والسفارة الأردنية في دمشق، وقصر العدل والأمن الجنائي، والمركز الأمني في المرجة (وسط دمشق)، دون أي نتيجة حقيقية، حيث وضعت تلك الجهات أمامه عثرات في الوصول إلى نجله.
ولا تعدّ تلك الحادثة الأولى، فهناك الكثير من الحوادث المتكررة التي يتعرض لها السياح في سوريا، فقد اُختطف الأردني عبد الكريم قطيش الفاعوري (67 عامًا)، بعد دخوله سوريا في يناير/ كانون الثاني بهدف السياحة من قبل ميليشيا مسلحة تابعة للنظام، وطالب الخاطفون بدفع مبلغ 100 ألف دينار أردني مقابل الإفراج عنه، لكن ذويه أكدوا إطلاق سراحه دون دفع أي نقود، بعد تدخل الأردن والنظام السوري.
وتغيب الإحصائيات الرسمية لأعداد السياح المفقودين في سوريا، سواء من حكومة النظام أو من حكومات بلدانهم، لا سيما السياح الأردنيين الذين تبلغ أعدادهم بالعشرات، حيث فُقد التواصل معهم عقب دخولهم الأراضي السورية منذ سيطرة النظام على الجنوب السوري، وإعادة افتتاح المعابر الحدودية مع الأردن.
انا حصلت معي شخصيا انا فلسطيني من سكان لبنان سافرت لسوريه لاول مره بحياتي من كندا واخدت فيزا من القنصليه السوريه ولما وصلت عمطار دمشق قالولي اسم على اسم وحجزوني عدة ساعات لحد ما احد اقربائي جاب مسؤول ودفعنا مصاري لقدرت طلعت نظام بيلفق تهم حتى لو كنت اول مره بتدخل سوريه
— Ali (@Ali48270960) July 16, 2023
ويؤكد الصحفي قتيبة ياسين، أن أبرز ما يواجه السياح القادمين إلى سوريا الانفلات الأمني في مناطق سيطرة النظام، وسط تنوع الميليشيات والجهات الحاكمة التي لا تخضع لسلطة مركزية واحدة، في وقت لا يستطيع النظام ضبطها والتعامل معها في ظل التنازع فيما بينها، ما يهدد سلامة السياح.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن عمليات الاحتجاز التي تطال بعض السياح، تنفّذها مؤسسات أمنية حتى توفر دخل مالي خاص بها في وقت غياب قدرة النظام على تغطية احتياجاتها، ذلك مقابل إطلاق سراح المحتجز، وإرساله خارج الأراضي السورية، حيث يضطر ذوي المعتقلين إلى دفع أموال طائلة لقاء ذلك”.
وأضاف: “إن عمليات اختطاف واختفاء بعض السياح ضمن الجولات السياحية تنفّذها ميليشيات وعصابات مسلحة تابعة للنظام بشكلها الضمني، وليس بالضرورة أن تكون تابعة بشكل تراتبي لمؤسسات الدولة الأمنية، في حين تطلب الميليشيات الفدية مقابل تسليم السائح لذويه”.
وأوضح أن السياح يجهلون الواقع الأمني المنهار في البلاد، والذي يعرض حياتهم للخطر فور دخولهم الأراضي السورية، على عكس ما تصوره الحكومة عبر المؤثرين من صنّاع المحتوى أو التقارير الإعلامية الممولة أو تصريحات المسؤولين.
يعدّ قطاع السياحة من القطاعات الهامة في سوريا، ما يفسّر عناية حكومة الأسد به، لاعتباره من أبرز مصادر الاقتصاد السوري قبل الحرب، بعدما كان عدد السياح الذين يقصدون سوريا في يناير/ كانون الثاني 2011 قرابة 6 ملايين سائح، في حين انخفض إلى أقل من 400 ألف عام 2015، لتتراجع عوائد السياحة بنسبة 98% حسب مصادر حكومية.
لا تبدو فكرة ترويج السياحة في سوريا أمرًا اعتباطيًّا، في وقت تعمل حكومة النظام مستغلةً كل الفرص وجعل القطاع من أولوياتها، إذ يساهم في رفد خزينة الدولة بالقطع الأجنبي بشكل مباشر، من لحظة دخول السائح.
في مشهورة سورية مواليد السعودية معروفه مره بالسعودية شفتها الحين راحت سوريا صار لها اربعه ايام الغريب وانا تطلع لي بالسناب ولا مره طلعت زارت اهلها في سوريا او قالت انا معزومه عند احد كل وقتها بالفنادق اربعه نجوم انتي في وطنك ليش عايشه من فندق ل فندق واضح ترويج للسياحة
— (@NotHerAgainDamn) July 11, 2023
وتتبّع “نون بوست” نشاط شركات السياحة والسفر في سوريا والدول المجاورة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تستهدف الجمهور السوري والعربي، في تنظيم رحلات السياح إلى المواقع السياحية في سوريا، من بينها شركات استعادت نشاطها بعد عام 2018 وأخرى خلال العام الحالي، حيث كان لها دور بارز في المساهمة في النشاط السياحي، بعدما منحتهم وزارة السياحة تراخيص جديدة وأغلقت مكاتب السياحة والسفر المخالفة.
وفي يونيو/ حزيران، انطلقت شركة “فري بيرد” بالعاصمة السورية دمشق كوكيل لشركة “البحر المتوسط” اليونانية، حيث تعمل الشركة على ربط أوروبا بسوريا عن طريق أثينا، بمعدل رحلة واحدة أسبوعيًّا تربط بين دمشق وأوروبا والعكس، وتيمثّل تدشين هذه الشركة خطوة لفتح قنوات اتصال مع أوروبا من خلال السياحة.
بالتوازي مع التسهيلات التي قدمتها وزارة السياحة في إعادة النشاط السياحي، تسعى زوجة رأس النظام السوري، أسماء الأسد، من خلال حملات العلاقات العامة، إلى استقطاب مؤثري يوتيوب وتيكتوك للسياحة في سوريا، ممهّدة الطريق أمام ملايين المتابعين لزيارة سوريا.
وتُقاد حملات ترويجية بالتعاون مع عشرات المؤثرين المتخصصين بالسفر ورصد طبيعة الحياة، ومحتوى المعالم الأثرية والتاريخية، ومحتوى الأطعمة وغيرها، من بلدان عربية مختلفة على رأسها الأردن ولبنان، وبلدان أجنبية من الولايات المتحدة وأيرلندا وفرنسا وأمريكا، فضلًا عن المؤثرين والمشهورين السوريين.
وفي السياق، عززت الحملات الترويجية دور الشركات السياحية في مناطق النظام، من خلال التنسيق مع المؤثرين لزيارة البلاد مقابل أموال، فضلًا عن تقديم تسهيلات شريطة إظهار سوريا كما تريد أجندة النظام إظهارها.
ويؤكد الباحث الاقتصادي يحيى السيد عمر خلال حديثه لـ”نون بوست”: “أن حملة العلاقات العامة التي تقودها أسماء الأسد عبر الشركات السياحية، لاستجلاب المؤثرين والمشهورين لزيارة سوريا، حققت نتائج مقبولة ضمن القطاع السياحي في سوريا، من خلال التشجيع على السياحة، ما أسهم في استجلاب آلاف السياح إلى سوريا، بينهم جنسيات عربية وأجنبية، فوجئوا بنقل المؤثرين لما هو منفصل عن الواقع تمامًا”.
ويواجه صنّاع المحتوى القادمون إلى سوريا من بلدان عربية وأجنبية مشكلة التخطيط والتنظيم للرحلات السياحة، كما تجري العادة في رحلاتهم، ما يضطرهم إلى الاستعانة بالشركات التي تنسّق معهم لزيارة البلاد، والتي توفّر لهم كافة احتياجاتهم إلى جانب “الدليل السياحي”.
وتتوكل الشركة عبر دليلها السياحي مهمة مسار الرحلة التي يريد تصويرها “اليوتيوبر”، ويختار الدليل السياحي أماكن الإقامة كالفنادق والمنتجعات، والمناطق التي سيمرّ بها خلال الرحلة، ما يجعل “اليوتيوبر” يصور المشاهد التي وُجه إليها فقط، ما يتيح للجهة المنظمة للرحلة التحكم بما سوف يراه ويبثّ للمتابعين.
ويوثق “اليوتيوبر” جميع تنقلاته مستعرضًا جولاته على طرق السفر والمناطق السياحية، رفقة الدليل السياحي الذي يروي دعاية النظام السوري كلما مرّوا خلال الرحلة ضمن منطقة مدمرة تظهر واقع البلاد الحقيقي، حيث يبادر بالقول إنها “دُمّرت من قبل الإرهابيين”.
وتوظف الجهات المنظمة لرحلات صنّاع المحتوى في سوريا، بشكل غير مباشر، حلقات صانع المحتوى في الترويج للسياحة في سوريا، دون شعوره بالغاية الرئيسية التي تحققها من الرحلة إلى سوريا، لأن ما يظهره “اليوتيوبر” المناطق التي لم يطالها الضرر، وفي حال استعرض مناطق مدمّرة فإن المبررات موجودة بشكل تلقائي، ما يثبت بروباغندا النظام في تصدير “سوريا الآمنة”.
تتوقع وزارة السياحة في حكومة النظام وصول عدد القادمين إلى سوريا، خلال العام الحالي، إلى 2.5 مليون، على أن يكون عدد السياح أكثر من 700 ألف شخص من جنسيات سورية وعربية وأجنبية، بحسب ما نقلت صحيفة “الوطن” الموالية نهاية مايو/ أيار الماضي عن وزير السياحة محمد مرتيني.
بينما توقعت مديرة التسويق والإعلام السياحي في الوزارة، ربى صاصيلا، أن يصل أعداد السياح خلال العام الحالي نحو مليون سائح، مشيرة إلى زيادة أعداد السياح في الربع الأول لهذا العام بنسبة 30% عن السنوات الماضية، وأن العدد وصل إلى 385 ألف سائح، منهم 40 ألفًا من عدد السياح أجانب غالبيتهم من إسبانيا وهولندا.
في المقابل، تؤكد بعض المصادر أن معظم السياح الأجانب هم أصلًا من الدول الحليفة للنظام السوري، مثل روسيا وإيران والصين، إضافة إلى سوريين مغتربين يحملون جنسيات أجنبية، بينما سجّل عدد السياح من دول العراق وإيران والأردن والبحرين حضورًا بهدف السياحة الدينية والطبية.
وفي يوليو/ تموز 2022، أطلقت وكالة السفر الهولندية “كالتشر رود (CultureRoad)”، لمالكها ريك برينكس، رحلات سياحية إلى سوريا للتعرُّف إلى الأجزاء الآمنة من سوريا، مستعينة بمرشدين محليين من ذوي الخبرة.
وأوضح صاحب الوكالة وجود طلب على السفر إلى سوريا من الأشخاص المهتمين بالبلد أو زاروها بالفعل قبل الحرب، حيث كان للبلاد عدد من المعالم الأثرية، تعرّض بعضها للدمار، مشيرًا إلى وجود بعض المناطق الخطرة التي تعرِّض السياح لمخاطر الاختطاف.
وأُغلقت السفارة الهولندية في دمشق منذ مارس/ آذار 2012، حيث تصنّف وزارة الشؤون الخارجية في هولندا لون السفر إلى سوريا باللون الأحمر، مشيرة إلى خطورة السفر، حيث يتحمل السائح مسؤولية نفسه لأنه لا يوجد دبلوماسيون هولنديون لتقديم المساعدة.
بدورها إسبانيا اعتمدت دبلوماسيًّا إسبانيًّا واحدًا فقط في السفارة الإسبانية ببيروت كقائم بالأعمال بالنيابة لدى دمشق، مع زيارات دورية للأراضي السورية خلال عام 2021، بعدما تدهورت العلاقات الدبلوماسية بين إسبانيا وسوريا نتيجة قمع النظام للاحتجاجات المناهضة عام 2011.
وشاركت سوريا في فعاليات معرض فيتور 2023 السياحية ضمن الدورة 43 في مدينة مدريد الإسبانية مطلع العام الجاري، وحقّقت وزارة السياحة السورية خططها في ترويج السياحة في البلاد، ما فتح المجال أمام الشركات السياحية لعقد الاتفاقيات في تسيير رحلات سياحية إلى سوريا قادمة من إسبانيا.
يقصد السياح السواحل السورية في محافظتَي اللاذقية وطرطوس، والمواقع الأثرية في دمشق وحمص وحلب وحماة، لكن الغالبية العظمى منهم يقصدون سوريا بشكل دوري بهدف زيارة المراقد الشيعية في دمشق ودير الزور وحلب، وهم من الميليشيات الإيرانية والعراقية، وأشار وزير السياحة إلى زيارة أكثر من 257 ألف سائح عراقي لسوريا خلال العام الفائت، بهدف السياحة الدينية.
ورصد “نون بوست” عروض شركات السياحة الدينية إلى سوريا، القادمة من العراق وإيران إلى المزارات والمراقد الشيعية في البلاد، التي تنظّمها الشركات للمسافرين، وتسيّر عشرات الرحلات شهريًّا سواء عبر النقل البرّي ضمن سيارات خاصة “جيمس” أو النقل الجوي.
وتوفّر شركات السياحة الدينية الحماية من قبل الميليشيات الإيرانية والشيعية للسياح، فضلًا عن تنظيم برامج السياحة والإقامة في المراقد والمزارات، بينما تنقل تلك الشركات الآلاف من الميليشيات والعصابات الشيعية الإيرانية والعراقية إلى سوريا، ويحصلون على تسهيلات من النظام السوري، آخرها السماح للزائر الإيراني بهدف الحجّ تسديد أجور الإقامة في الفنادق بالليرة السورية، بحسب بيان للمصرف المركزي.
وأكّد الباحث يحيى السيد عمر أن أرقام السياح مبالغ فيها، لأن الغالبية منهم يقصدون سوريا للسياحة الدينية، كالشيعة من العراق وإيران وباكستان، واللبنانيون الذين يقصدون سوريا للتسوق في ظل الأزمة الاقتصادية في لبنان، والأردنيون الذي يقصدون درعا لوجود علاقات عشائرية بين الجانبَين، وكل هؤلاء محسوبون على السياح، ما يبرر ارتفاع عدد السياح خلال هذا العام.
بالمحصلة، تبرهن المعطيات حقيقة قطاع السياحة في سوريا، فالواقع مغاير لما يحاول النظام تصديره للعالم، عبر صنّاع المحتوى المؤثرين الذين يقدّمون رواية النظام المدجّجة حتى دون أن يشعروا بذلك، بينما تعتبَر الأرقام المتزايدة لأعداد السياح جزءًا من البروباغندا، لا سيما أنها تعتبر كل من يدخل البلاد سائحًا، في حين تشكّل أعداد الإيرانيين والعراقيين الشيعة – بمن فيهم مسلحون وعناصر المليشيات متمركزة في البلاد – الأكثر دخولًا إلى سوريا.
]]>ويمثل قطاع السياحة أحد الأضلاع الرئيسية للاقتصاد المصري، ومصدر أساسي للعملة الصعبة وواحد من الروافد المحورية لتشغيل الشباب وإحداث حالة من السيولة المالية في السوق الداخلي، إذ يسهم بـ12% من الناتج المحلي المصري، ويوفر 10% من إجمالي الوظائف.
وتشير البيانات الرسمية إلى تراجع عائدات السياحة في مصر بشكل لافت خلال الـ12 عامًا الأخيرة، من 12.5 مليار دولار عام 2010، إلى 8.9 مليار دولار عام 2011، ثم عاودت الارتفاع الطفيف عام 2012 إلى 10 مليارات دولار، لكن سرعان ما تهاوت في 2013 لتصل إلى 5.9 مليار دولار، ثم 7.3 مليارات في 2014 و6.1 مليار في 2015، ونحو 3.4 مليار دولار في 2016، لتقفز بشكل كبير في 2019 لتصل إلى 13 مليار دولار قبل أن تهوى مرة أخرى في 2020 حيث لم تتجاوز حاجز الـ20% متراجعة بنسبة أكثر من 69%.. فما أسباب هذا التهاوي؟ ولماذا يعزف السائحون عن مصر رغم ما تملكه من مقومات تفوق نظيراتها في الدول التي تحقق أرقامًا أضعاف ما تحققه المحروسة؟
قبل الحديث عن أسباب عزوف السائحين عن مصر لا بد من الإشارة إلى المقومات السياحية التي يمتلكها هذا البلد الضارب بجذوره في عمق التاريخ، كونه واحدًا من أعرق البلدان تاريخًا وأعظمها حضارة وأثراها ثروات وإمكانات، تضعها في مقدمة خريطة السياحة العالمية.
المتابع للحالة المصرية يجد أنها تمتلك كل عوامل الجذب السياحي، وبكل أنواعه، فلديها شريط ساحلي لا يتوافر لكثير من الدول صاحبة الحضور السياحي الكبير، إذ تطل على بحرين من أكبر بحار العالم: البحر الأبيض المتوسط شمالًا، الذي يزيد طول شريطه على 1000 كيلومتر بجانب البحر الأحمر شرقًا، فضلًا عن شريط ساحلي بطول نهر النيل من أسوان جنوبًا وحتى رشيد ودمياط شمالًا.
هذا بجانب ما تمتلكه مصر من ثروة أثرية قلما تمتلكها دولة أخرى في العالم، فلديها 6 مواقع أثرية تعود إلى أكثر من 7000 عام، مصنفة ضمن الأفضل عالميًا بحسب منظمة اليونسكو وهي مدينة طيبة القديمة “الأقصر” ودير سانت كاترين في جنوب سيناء ومعابد النوبة من أبو سمبل إلى فيلة وجبّانة ممفيس من منطقة أهرامات الجيزة إلى دهشور، ومنطقة أبو مينا بالإسكندرية والقاهرة التاريخية، بالإضافة إلى عشرات المواقع المتميزة الأخرى مثل وادي الحيتان.
وتشير بعض التقديرات غير الرسمية إلى امتلاك مصر ثلث آثار العالم، فبها أهرامات الجيزة، إحدى عجائب الدنيا السبعة، بجانب المعابد ذات الشهرة التاريخية الخالدة وعلى رأسها معبد الرأس السوداء ومعبد السرابيوم ومعبد القيصرون وعمود السواري ومقبرة كوم الشقافة في الإسكندرية ومعبد الأقصر ومعبد هابو ومعبد الكرنك ووادي الملكات ووادي الملوك ودير المدينة ومتحف التحنيط بالأقصر جنوبًا.
بجانب ذلك تحتضن مصر عشرات الآبار والبحيرات والمشافي العلاجية، فضلًا عن مقومات الجذب السياحي ثقافيًا كونها تمتلك العديد من الآثار الثقافية والمواقع التراثية المهمة التي تسيل لعاب الأثريين والباحثين من مختلف دول العالم، فضلًا عن المناخ العام الذي تتمتع به البلاد ويحولها إلى مزار صيفي شتوي محبب للجميع.
تشير المرشدة السياحية نسرين حسام إلى أن الأعداد التي تستقبلها المحروسة لا تتناسب مطلقًا مع حجم ما تمتلكه من مقومات تفوق عشرات أضعاف ما تمتلكه الدول المجاورة التي تجتذب أعدادًا كبيرة من السائحين وعلى رأسها تركيا واليونان وقبرص والمغرب والإمارات، مقسمة أسباب عزوف السائحين الأجانب عن مصر إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية.
وتستهل نسرين حديثها لـ”نون بوست” عن العوامل الداخلية بـ”سوء التخطيط والإدارة” منوهًة أن جولة واحدة لأي فوج سياحي داخل المدن الرئيسية وخاصة القاهرة تكشف حجم الفشل في الإدارة وغياب التخطيط عن العقلية المنظمة للقطاع السياحي برمته، كاشفة أنها على المستوى الشخصي تلقت العديد من الشكاوى من بعض الأفواج بسبب المشاهد القاسية التي تخطف أنظار السائحين خلال زياراتهم داخل المدن، من انتشار للقمامة وتفشي مظاهر الفقر والتسول والازدحام المروري، والبيروقراطية الفجة، ما يعكس صورة سلبية عن الدولة وخدماتها المقدمة، وهو ما لا يضعه القائم على أمور المنظومة في اعتباراته رغم الانعكاسات السلبية لذلك.
ارتفاع أسعار بعض الفنادق والمنشآت السياحية كان ضمن أسباب العزوف السياحي، فمقارنة بتركيا مثلًا تبلغ كلفة الإقامة في فندق 5 نجوم بمصر 3 أضعاف كلفته في إسطنبول أو أزمير أو أنقرة، بحسب المرشدة المصرية، فضلًا عن عدم وجود المبهرات البصرية للسائحين كما هو الحال في دول الخارج، بجانب عدم تلبية احتياجات السائح من متاجر للتسوق بأسعار رخيصة وجودة نسبية.
أما الخبير السياحي، أحمد مختار، الأكاديمي بجامعة القاهرة، فأشار إلى عوامل أخرى ساهمت بشكل واضح في عزوف الكثير من السياح أبرزها ما يتعلق بالوضع السياسي الأمني المجتمعي، فما تعرض له الباحث الإيطالي جوليو ريجيني وغيره من الباحثين والنشطاء الأجانب في مصر خلال السنوات الماضية شوه صورة القاهرة كقبلة قديمة للسياحة الثقافية والعلاجية والبيئية، فضلًا عن رسمه صورة سلبية عن الوضع الأمني الداخلي خاصة بعد تزايد معدلات الجريمة بشكل ملحوظ، الأمر الذي دفع البعض إلى التفكير كثيرًا قبل الإقدام على مغامرة زيارة مصر.
وتواجه مصر انتقادات لاذعة من العديد من المنظمات الحقوقية الدولية خلال السنوات الماضية بسبب الانتهاكات الممارسة بحق المعارضين والمغردين خارج السرب، سواء كانوا مصريين أو أجانب، وقد انعكس ذلك على مواقف بعض الدول التي حذرت مواطنيها من السفر لمصر، هذا بخلاف التجارب التي وثقها صناع محتوى يوتيوب مشهورين حول البيروقراطية التي تعاني منها الدولة المصرية والانتهاكات المتكررة هناك، بل إن بعضهم وصف مصر بأنها أسوأ دولة في العالم يمكن الذهاب إليها، وقد شهدت القاهرة الأشهر القليلة الماضية عددًا من أحكام الإعدام التي اتُهمت بـ “التسييس”، أعقبها حملات للمطالبة بوقف تلك الموجات المتكررة، آخرها تلك التي أطلقتها مؤسسة “عدالة لحقوق الإنسان” (غير حكومية)، أبريل/نيسان الماضي تعليقًا على تنفيذ الأحكام بحق 7 أشخاص.
وفي بيانها الذي جاء تحت عنوان “أوقفوا الإعدام” قالت المنظمة إن: “أحكام الإعدام الصادرة في مصر مؤخرًا، والإعدامات التي تم تنفيذها سابقًا في القضايا التي توصف بالسياسية هي نوع من الانتقام السياسي، وبعيدة عن محاولة تحقيق العدالة عبر محاكمات عادلة بضماناتها ومبادئها التي يجب أن يلتزم بها الجميع”، لافتة إلى إعدام 105 معتقلين سياسيين في مصر خلال السنوات الثمانية الماضية هذا بخلاف 95 آخرين صدر ضدهم أحكام بالإعدام في انتظار التنفيذ في 18 قضية سياسية.
المنظمة ترى أن تلك الأحكام القاسية تحولت إلى أداة للانتقام من المعارضين والخصوم السياسيين، منوهة إلى أن : “كل مَن تابع المحاكمات التي أدت إلى الإعدامات في مصر وصفها بأنها محاكمات تفتقر إلى أدنى معايير وضمانات المحاكمات العادلة، وأدانت جميع الجهات الدولية المعنية الممارسات القضائية التي تمت في تلك المحاكمات”.
بجانب الإعدام هناك الاختفاء القسري والذي تحول إلى ظاهرة في الأونة الأخيرة بحسب المنظمات الحقوقية، ففي تقريرها السنوي السادس لحملة “أوقفوا الاختفاء القسري” (حملة أطلقتها المفوضية المصرية للحقوق والحريات في 30 أغسطس/ آب 2015، بالتزامن مع اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، بهدف نشر الوعي بخطورة جريمة الاختفاء القسري على المجتمع المصري، وضرورة الوقوف أمام جريمة الاختفاء القسري في مصر)، والصادر تزامنًا مع اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري 30 أغسطس/ آب 2021، والذي جاء تحت عنوان “جريمة الاختفاء القسري مستمرة: الإنكار الرسمي ما زال بلا جدوى”، وثّقت الحملة 3029 حالة اختفاء في الـ 6 سنوات الأخيرة، منذ 30 أغسطس/ آب 2015 حتى أغسطس/ آب 2021.
الهزة التي تعرض لها قطاع السياحة المصري لم تكن أسيرة عوامل داخلية فقط، بل ساهمت أخرى خارجية في تعميق الأزمة، كما هو الحال مع دول العالم كافة، ويأتي على رأس تلك العوامل الحرب الروسية الأوكرانية، التي أدت إلى تهاوي السياحة المصرية بشكل كبير، وفق ما قاله رئيس الاتحاد العام للغرف السياحية سابقًا إلهامي الزيات، الذي أشار إلى أهمية السياحة الأوكرانية لمصر خلال 2017 – 2018 – 2019.
وأوضح الزيات في تصريحات صحفية له أن السياحة الأوكرانية كانت تمثل 25% من حجم السياحة الخارجية لمصر لكنها تراجعت اليوم لتصل ما بين 3 – 5%، لافتًا إلى أن السياحة الروسية والأوكرانية تمثل ما بين 60 و65% من حجم الأسواق الوافدة إلى مصر.
ولا يزال السوق المصري يدفع ثمن توقف السياحة الروسية منذ حادثة الطائرة في 2015 غاليًا جدًا، ورغم العودة التدريجية للسياح الروس، فإن الأمور لم تصل بعد إلى سابق عهدها، فضلًا عن تأثير الحرب على التدفق السياحي الروسي خلال الآونة الأخيرة، وهو ما مثل ضغطًا كبيرًا على القطاع، ما تسبب في لجوء الكثير من الفنادق والمنشآت للغلق أو تخفيض النفقات تعاطيًا مع المستجدات وكلفتها العالية.
جائحة كورونا كانت ضمن الأسباب المحورية وراء تهاوي السياحة الأجنبية لمصر كما أشار الخبراء، فقد تكبدت مصر خسائر مليارية فادحة، وفقدت خلال الأعوام الثلاث الماضية مصدرًا أساسيًا للعملة الصعبة كما تفشت البطالة بشكل ملحوظ، هذا في الوقت الذي لم تبذل فيه الحكومة المصرية أي جهود إضافية لتعويض تلك الخسارة وجذب السائحين بمغريات تدفعهم لوضع مصر على خريطة أولوياتهم السياحية المقتضبة بسبب الجائحة.
التراجع الكبير للسياحة وعائداتها خلال السنوات الأخيرة كان بمثابة جرس إنذار للحكومة المصرية التي وجدت نفسها في مأزق جراء سياسة الاستدانة والاقتراض التي كبلت الدولة بقيود الديون والفوائد والتزامات السداد التي تلتهم أكثر من 80% من موازنة الدولة، الأمر الذي دفعها للبحث عن إحياء القطاعات ذات العائد الدولاري الثابت التي كانت تشكل في السابق ضمانة كبيرة في مواجهة أي عجز في الاحتياطي النقدي.
رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، طالب خلال اجتماع حكومي قبل أيام، بضرورة استغلال موسم الشتاء القادم للترويج للسياحة في مصر، ومحاولة بذل الجهود للعودة إلى الأرقام التي كانت عليها في السابق، موجهًا حديثه لوزير السياحة الجديد، أحمد عيسى “بسرعة الترويج للمقاصد السياحية، واستهداف المزيد من الأسواق الجديدة، سعيًا لزيادة حركة السياحة الوافدة لمختلف المدن المصرية، خاصة شرم الشيخ والغردقة ومرسى علم” على البحر الأحمر، باعتبارها “مقاصد سياحية دافئة متميزة”.
كما شدد رئيس الحكومة على “استغلال ما تتمتع به البلاد من تنوع في المقاصد السياحية لزيادة أعداد السائحين”، منوهًا إلى ضرورة توظيف السياحة النوعية أفصل توظيف، وعلى رأسها السياحة العلاجية والثقافية والدينية التي يمكن أن تسهم بشكل كبير في إنعاش القطاع وجذب السائحين من كل دول العالم.
وفي سياق إنقاذ ما يمكن إنقاذه، تعاقدت مصر مع شركة McCann الأمريكية لتولي تنفيذ الحملة الترويجية للسياحة المصرية في الخارج خلال الربع الأخير من العام الحاليّ، تزامنًا مع بعض الأحداث التاريخية التي يمكن استغلالها لإنعاش السياحة الخارجية منها ذكرى مرور 200 عام على فك رموز الكتابة المصرية القديمة ونشأة علم المصريات والاحتفال بمرور 100 عام على اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون.
وتستهدف الحملة التي ستنفذها الشركة الأمريكية صاحبة الباع الطويل في هذا المجال الترويج للسياحة المصرية في أسواق رئيسية مثل ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا والولايات المتحدة ودول الخليج العربي وروسيا، وكذلك بولندا والتشيك وفرنسا وإسبانيا، كما ستخاطب أسواقًا جديدة، لمدة 3 سنوات قادمة.
الميزانية التي وضعتها الحكومة المصرية لتلك الحملة والبالغة 90 مليون دولار أثارت استياء بعض الخبراء ممن وصفوها بـ”الهزيلة”، مقارنة بالميزانيات المخصصة للحملات السابقة التي بلغت في بعض الأحيان 42 مليون دولار عام 1993، ما قد يقلل من فرص تحقيق تلك الحملة لأهدافها المنشودة.
الحديث عن إصلاح منظومة السياحة في مصر حديث مطول، تتشابك فيه العديد من الخيوط والأحبال، فالأمر لا ينحصر في تطوير البنية التحتية، بل يتجاوز ذلك إلى تهيئة المناخ السياسي والأمني والمجتمعي لذلك، فجودة المنشآت ورخص الأسعار لم تعد وحدها مقومات جذب السائح الأجنبي، فهناك عوامل أخرى لات قل أهمية، برزت في الآونة الأخيرة، أبرزها شعوره بالأمان والطمأنينة وأنه في مأمن من الاستهداف مهما كانت المبررات، إحساسه بالألفة وسط مواطني الدولة التي يزورها، إيمانه بحريته المطلقة في التحرك والتعبير عن رأيه طالما لم يتجاوز القانون، اقتناعه التام باحترام الدولة لمواثيق حقوق الإنسان واحترامها لمواطنيها قبل الأجانب.. فهل تملك مصر تلك الرحابة؟
]]>تملأ فرقة نحاسية الأجواء بالموسيقى التركية النابضة بالحياة وهي تسير في شارع مرصوف بالحصى؛ حيث يملأ السياح والسكان المحليون الذين يصفقون ويرقصون الساحة الرئيسية.
ويرتدي الموسيقيون زيًّا فيروزيًّا مرصعًا بالذهب على مستوى الأكتاف؛ وهي ألوان تتناسب مع اللون الأزرق السماوي لمياه بحر إيجة في ألاتشاتي، الواقعة في شبه جزيرة تشيشمي في غرب تركيا، والتي تتمتع بجميع السمات المميزة لمدينة البحر الأبيض المتوسط النموذجية، بمنازلها الحجرية الريفية ذات الأبواب الخشبية المطلية بشكل نابض بالحياة، والشوارع المتعرجة المليئة بالمطاعم الراقية والمعارض الفنية الحديثة والمتاجر.
يتدفق المصطافون الأتراك إلى هذه الوجهة الخلابة، التي تقع على بعد حوالي ساعة بالسيارة جنوب غرب إزمير، منذ إحيائها في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كما يأتيها أيضًا أناس من حول العالم؛ بحيث ستجد في كل مكان أشخاصًا يحتسون الشاي التركي في مقاهي المدينة في الهواء الطلق، ويستمتعون بالهواء النقي وأشعة الشمس.
ولم يقتصر الأمر على كسب المصطافين فحسب؛ فقد أصبحت ألاتشاتي عاصمة رياضة ركوب الأمواج الشراعية في تركيا، نظرًا للرياح القوية الموجودة بها على مدار السنة؛ حيث تقول بيريهان أكبولوت، التي تدير فندق كورابيي الذي يبعد بضع دقائق سيرًا على الأقدام من كورابيي ستون: “إن الهواء الذي تتنفسه هنا ثمين، ودائمًا ما سيكون هناك نسيم يجعلك تشعر بتحسن؛ حتى لو كان الجو حارًا جدًا خلال أشهر الصيف”.
ريتشارد كويست من سي إن إن يسافر إلى غرب تركيا لاكتشاف سبب تسميتهم إزمير بـ “لؤلؤة بحر إيجه”.
يمكن بسهولة الخلط بين فندق كورابيي وأي بيت ضيافة على طراز بحر إيجة بفضل جدرانه المطلية باللون الأبيض وأبوابه الزرقاء.
وقد انتقلت أكبولوت من اسطنبول في سنة 2009، وافتتحت في السنة التالية الفندق الذي يحتوي على فناء مزين تتوسطه حديقة ليمون، وفي الوقت الحالي تعيش هي وزوجها بين وجهتين؛ يستمتعان بحياة المدينة الكبيرة “إسطنبول خلال الشتاء، ويعودان إلى المدينة الجميلة لموسم الصيف، وتضيف: “من السهل جدا تنظيم حياتك في ألاتشاتي. ولكن السبب الحقيقي وراء إعجابي بها يتمثل في كونه مكان لا يتعين عليك فيه التفكير كثيرًا فيما يجب عليك فعله أو المكان الذي تقصده”.
يقع شارع الكنيس المختبئ داخل بازار كيميرالتي في إزمير ويتم تجديده.
على مر السنين، مرت ألاتشاتي بالعديد من التجديدات؛ حيث كانت مجرد مستنقع حتى منتصف القرن التاسع عشر عندما قامت السلطات بتجفيفه لتخليص المنطقة من البعوض المسبب للملاريا، ثم استقر فيها العمال اليونانيون من الجزر المجاورة لزراعة كروم العنب وبساتين الزيتون، ولا تزال تعتبر المنطقة الأولى لصناعة النبيذ وإنتاج زيت الزيتون في تركيا.
ومثل غيرها من المدن في المنطقة، هجر السكان ألاتشاتي إلى حد كبير في عشرينيات القرن الماضي بعد أن انخرطت تركيا واليونان في تبادل سكاني قائم على الدين، وتُرِكَت منازلها الحجرية لعقود دون ترميم لتصبح في حالة يرثى لها. لكنها شهدت تغيرًا جذريًا في السنوات العشرين الماضية، بعد اكتشاف الزوار المتحمسين من جميع أنحاء البلاد فرصة لشراء منازل لقضاء العطلات هنا وبث حياة جديدة في المدينة.
غالبًا ما يتباهى السكان المحليون بمنتجات المنطقة والأطعمة المنزلية. ويوم السبت، تصطف الأكشاك في السوق لعرض الفواكه والخضروات والخبز الطازج والمأكولات البحرية في شارع كمال باشا الرئيسي للمدينة، فيما يمتد السوق إلى العديد من الشوارع الجانبية.
في كل ربيع، يجذب هذا الحدث السنوي الذي يعرض الأعشاب الطبيعية التي تنمو في ألاتشاتي ومدينة تشيشمي الساحلية القريبة جحافل من الزوار إلى المنطقة. تقول أكبولوت “يمكن الحصول على كل شيء: طعام لذيذ، خضروات وفواكه طازجة، أعشاب طبيعية ومأكولات بحرية. وهو مكان لا يمكنك الشعور فيه بالوحدة نظرًا لوجود مزيج جيد من السكان المحليين والمستوطنين الجدد”.
لهذه المنطقة من شرق البحر الأبيض المتوسط تاريخ حافل، حيث يمكن العثور على الآثار القديمة لمدينة أفسس، وهي من مواقع التراث العالمي لليونسكو، على بعد ساعة واحدة فقط بالسيارة جنوب ألاتشاتي، وهي تقع بالقرب من بحر إيجه والمدينة المنشأة حديثًا “سلجوق”، والتي لا تزال أحد أكثر المواقع احترامًا في المسيحية، وهو مقر أفضل المعالم الأثرية في تركيا بما في ذلك معبد هادريان، الذي بُنِيَ تكريمًا للإمبراطور الروماني هادريان.
ولا تبعد الينابيع الساخنة في باموكالي، التي تُترجم حرفيًا إلى “قلعة القطن”، ويمكن الخلط بينها وبين مجموعة من الغيوم الملائكية إذا تم عرضها بالزاوية الصحيحة، سوى بضع ساعات بالسيارة.
مدينة أفسس القديمة هي بلا شك واحدة من عجائب تركيا العظيمة، ولكن على بعد مسافة قصيرة بالسيارة توجد قرية صغيرة تتمتع بالكثير من السحر.
منذ قرون، كان هذا الموقع الشهير المبني من حجر الجير القديم المصنف ضمن التراث العالمي حسب اليونسكو وجهةً للكثير من السياح، كما تعد الأطلال المحفوظة جيدًا لمدينة هيرابوليس القديمة التي كانت في يوم من الأيام مركزًا للشفاء من بين أبرز معالمها، هذا إلى جانب مسبح باموكالي العتيق المعروف أيضًا باسم مسبح كليوباترا، حيث يُعتقد أن الملكة المصرية كليوباترا سبحت فيه ذات مرة.
وبالنسبة لأولئك الذين يفضلون البقاء بالقرب من المدينة، فإن رحلة إلى الينابيع الساخنة لشاطئ إيليجا، حيث تظل المياه ضحلة لمسافة 100 متر أو نحو ذلك من الشاطئ، تعتبر أمرًا مثيرًا للاهتمام.
وقال رئيس بلدية تشيشمي، أكرم وهران، لشبكة “سي إن إن”، معربًا عن إعجابه بالأعشاب في سوق ألاتشاتي يوم السبت: “نطلق على هذا المكان اسم جنة على الأرض. ولن تجد شعورًا مخالفًا لذلك بين زائريها”.
المصدر: سي إن إن
]]>الدراسة قدمت تصورًا عامًا عن الميزانيات التي تخصصها الأسر التركية لقضاء العطلة هذا الموسم، في إشارة إلى حجم الانخفاض مقارنة بما كانت عليه في السنوات الماضية، إذ أفاد 23% أن ميزانيتهم لن تتخطى 4 آلاف ليرة مقابل 10 آلاف ليرة حددها 27% من العينة، بينما تترواح بين 4-6 آلاف ليرة لدى 16.5% من المشاركين مقارنة بـ8 آلاف ليرة لـ24.7% ممن شملتهم الدراسة.
وتمثل السياحة أحد أضلاع الاقتصاد التركي الرئيسية التي تعتمد عليها البلاد لإنعاش الخزانة من العملات الأجنبية وإحداث حالة من الحراك والسيولة الاقتصادية على المستوى الداخلي، غير أن هذا المورد تعرض مؤخرًا لضربة قاسية بسبب جائحة كورونا وما تلاها من الحرب الروسية الأوكرانية التي أفقدت البلاد الشريحة الكبرى من سائحيها الأجانب.
بدأ انهيار عائدات القطاع السياحي التركي عام 2020 حين حققت البلاد 12 مليار دولار، مقارنة بـ34.5 مليار دولار حققتها عام 2019، و29.5 مليار دولار في 2018، وفقًا لمؤسسة الإحصاء التركية “TÜIK”، فيما تتصاعد مخاوف انهيار السياحة الداخلية التي يعول عليها في تعويض عجز السياحة الخارجية، لكنه التعويل الذي يصطدم بالتضخم والمستوى المعيشي المتدني الذي ربما يُفقد تركيا مصدرًا آخر من مصادر العملة الأجنبية والإنعاش الاقتصادي التي طالما ارتكزت عليه في خطط التنمية التي تبنتها منذ 2003 وحتى اليوم.
تواجه تركيا مستويات من التضخم هي الأعلى منذ عقدين من الزمن، فوفق البيانات الصادرة عن معهد الإحصاء التركي مايو/آيار الماضي قفز معدل التضخم في البلاد في أبريل/نيسان 2022 إلى نحو 70%، مرتفعًا عما كان عليه في مارس/آذار بقرابة 9% حين بلغ 61.14%.
من المتوقع أن تتأثر حجم المدخرات السنوية للمواطنين الأتراك بشكل ملحوظ
وأرجع البنك المركزي ومؤسسات التحليل الاقتصادي هذا الارتفاع إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي كانت لها تبعات مؤثرة على الاقتصاد العالمي، فضلًا عن الهزات العنيفة التي شهدتها أسواق الطاقة التي عانت من ارتفاعات جنونية في الأسعار، ما انعكس على حجم موازنة البلاد التي تحتل فيها بنود دعم الطاقة مساحة ليست بالقليلة.
وقبل الحرب الحاليّة شهدت تركيا موجات قاسية من التضخم بسبب جائحة كورونا على مدار عامين كاملين، بجانب التحديات التي تواجهها على المستوى الداخلي والخارجي التي كان لها دورها البارز في انهيار العملة المحلية “الليرة”، ما كان له أثره السلبي على المستويات المعيشية للمواطن التركي لا سيما شريحتي محدودي ومتوسطي الدخول.
الموجة العاتية من ارتفاع أسعار السلع الأساسية رفعت عتبة الفقر في تركيا من 4250 ليرة قبل 3 أعوام إلى 14978 ليرة حاليًّا، ما يعني قفزة بلغت ثلاثة أضعاف ونصف تقريبًا، بحسب مركز أبحاث المعادن التركية، وهو ما زاد من توقعات خبراء الاقتصاد بشأن معدلات الفقر التي من المرجح زيادتها من 10.2% عام 2019 إلى 12.2% في 2021، وصولًا إلى أكثر من 13% العام الحاليّ، فيما يرى البعض أن الرقم أكبر مما هو معلن بكثير.
وكنتيجة اقتصادية حتمية لتلك الأرقام فمن المتوقع أن تتأثر حجم المدخرات السنوية للمواطنين الأتراك بشكل ملحوظ، فكل النصائح والتعليمات الصادرة عن المؤسسات الاقتصادية الدولية تحث على التخلي تدريجيًا عن الكماليات مع الاكتفاء بالضروريات (المأكل والمشرب والملبس والمسكن)، وعليه وفي ظل تلك الوضعية تعتبر الجولات السياحية مسألة رفاهية لكثير من متوسطي الدخول خاصة مع غياب أي مؤشرات إيجابية بشأن المستقبل القريب.
الكاتبة الصحفية التركية سيفيلاي يلمان في مقال لها بصحيفة “haberturk” جاء تحت عنوان “كم منا سيذهب هذا الصيف في إجازة” أشارت إلى أنها لم تتفاجأ بنتائج مؤسسة “متروبول” للأبحاث، لافتة إلى أن العديد من المؤشرات كانت تقود إلى تلك النتيجة، فالتضخم والأسعار المرتفعة لا شك أنها ستؤثر على الممارسات الحياتية للسواد الأعظم من الأتراك.
وأوضحت يلمان أنه ومن خلال الاتصالات التي أجرتها مع دوائرها المقربة في مدينة أنطاليا التي تسكن فيها، لاحظت أن النسبة الكبرى قررت عدم قضاء العطلة هذا العام مقارنة بالسنوات الماضية على سبيل المثال، مؤكدة أن المشكلة ليست أنطاليا وحدها لكنها أزمة عامة تهدد كل المدن التركية وتلوح بمنعطف قاس للسياحة الداخلية.
معدلات السياحة الداخلية ارتفعت بنسبة 68.6% في الفترة من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران 2021
المقال نوه أنه رغم أن أزمة الأسعار والتضخم عالمية وليست تركية، لا بد أن تكون هناك حلول عاجلة لعبور تلك المرحلة الحرجة التي تهدد واحدة من ثوابت الاقتصاد الوطني التركي، مناشدة الحكومة بالعمل على تبني خطط وإستراتيجيات عاجلة لجذب السياحة العالمية، كاشفة عن إحدى نتائج الدراسات التي أجريت في أمريكا مؤخرًا وأشارت إلى أن 49% من الأمريكيين ينوون قضاء العطلة خارج بلادهم، قائلة “دعونا نصلي من أجل إدراج تركيا في خطط العطلات الخاصة بهؤلاء الـ49% “.
التخوفات ذاتها عبر عنها رئيس جمعية مديري وكالات السفر التركية، محمد جيم، حين لفت إلى تعرض الفنادق والمنتجعات التي تستضيف رواد السياحة الثقافية لخسائر فادحة، بعضها قد يضطر للانغلاق بسبب الأسعار المرتفعة التي أثرت على حجم هذا النوع من السياحة الذي يشكل قرابة 50% من حجم السياحة الداخلية.
وأوضح جيم أن وكالات السياحة الثقافية الداخلية اضطرت لزيادة أسعار رحلاتها أكثر من مرة وبنسب تقترب من 100% لمواكبة القفزات الكبيرة في أسعار السلع والخدمات، منوهًا أن الوقود زاد بنسبة 274%، فيما زادت بقية مصادر الطاقة بـ174%، أما السلع والمواد الغذائية فزادت بنسبة 180% في مقابل 84% زيادة في نسبة الموظفين.
وحذر رئيس جمعية مديري وكالات السفر التركية من تداعيات غلق الرحلات الثقافية، لافتًا أن تداعياتها أكبر بكثير من الخسائر المادية، قائلًا: “يكافح ما يقرب من مئة ألف موظف بوكالة السفر السياحي والمرشدين ومشغلي الحافلات والفنادق التي تستضيف الضيوف والمنشآت السياحية من أجل البقاء، سيصبح الجمال الفريد لبلدنا يتيمًا قريبًا إذا لم تقم الحكومة بتخفيضات ضريبية عاجلة”.
يذكر أن معدلات السياحة الداخلية ارتفعت بنسبة 68.6% في الفترة من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران 2021، على أساس سنوي لتقترب من 9 ملايين زائر أنفقوا تقريبًا 10.7 مليار ليرة تركية (1.3 مليار دولار)، بزيادة 203.2% عن الفترة نفسها من العام الماضي، بحسب بيانات هيئة الإحصاء التركية.
البيانات فندت ميزانية الإنفاق للسياحة الداخلية خلال تلك الفترة على النحو التالي: 92.1% نفقات فردية مقابل 7.9% على شكل رحلات سياحية وبرامج ممنهجة، فيما بلغ متوسط الإنفاق لكل رحلة 1008 ليرات تركية (120 دولارًا أمريكيًا) خلال الفترة محل الدراسة (3 أشهر من أبريل/نيسان حتى يونيو/حزيران)، يتصدرها الطعام بنسبة 28.9% يليها قطاعا النقل بنسبة 27.6% والإقامة 16.6%.
وكان المعهد وغيره من المؤسسات الأخرى المعنية بالسياحة قد توقعت حدوث طفرة جديدة في معدلات السياحة الداخلية بعد إزالة القيود الخاصة بالجائحة، غير أن الحرب الروسية الأوكرانية وموجة التضخم العالمية والانهيار الذي تعاني منه الليرة والتحديات المعيشية للمواطن التركي التي أثرت على خريطة سلوكياته الإنفاقية على مدار العام، كلها عوامل يرجح أن تؤثر على السياحة الداخلية وتثير القلق والمخاوف من خسائر بالجملة قد تتعرض لها هذا الموسم.
يتوقع مسؤولون أتراك أن المستجدات الأخيرة ستتسبب في خسائر بقطاع السياحة التركي تتراوح بين 5-10 مليارات دولار هذا العام، فبحسب رئيس اتحاد أصحاب الفنادق والمرافق السياحية في جنوب بحر إيجة، بولنت بلبل أوغلو، فإن القطاع برمته سيتلقى خسائر لا تقل عن 5 مليارات دولار، مقارنة بـ10 مليارات بحسب رئيس اتحاد المرافق السياحية في منطقة إيجة (غرب)، محمد إيشلار، الذي يرجع هذا التأثير إلى ارتباط قطاع السياحة بـ54 قطاعًا فرعيًا.
وحذر الخبراء من أن غالبية المنشآت السياحية الداخلية – كغيرها من المؤسسات العاملة في شتى المجالات – ستغلق أبوابها إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فيما سيسرح عشرات آلاف العاملين بها، هذا في الوقت الذي ربما تقف فيه الحكومة عاجزة عن التعامل مع تلك الأزمة بخطط عاجلة بسبب العجز المالي الذي تواجهه جراء تراجع قيمة العملة المحلية ونقص العملات الأجنبية.
الكثير من الفنادق التي كانت تبلغ نسب الإشغال بها في السابق 100% ستباع بالمزاد العلني بعدما فقد ملاكها القدرة على سداد ديونهم
وأمام تلك الوضعية الصعبة ناشدت شركات السياحة التركية حكومة بلادها بتقديم الدعم لها لمواجهة الخسائر الناجمة عن الحرب والتضخم وتراجع السياحة الداخلية، ففي تصريحات لصحيفة “جمهوريت” التركية قال رئيس جمعية مديري الفنادق في منتجع بودروم، سيردار كارجيلي أوغلو: “في العام الماضي، جلب قطاع السياحة 24 مليار دولار للاقتصاد التركي، وسيحتاج هذا العام إلى ما لا يقل عن 10 مليارات دولار لتغطية الديون والنفقات الأخرى”.
وأكد أوغلو أن الكثير من الفنادق التي كانت تبلغ نسب الإشغال بها في السابق 100% ستباع بالمزاد العلني بعدما فقد ملاكها القدرة على سداد ديونهم، فيما قال الكاتب التركي المتخصص في مجال السياحة، فهمي كوفتي: “البنوك التركية باعت بالفعل 271 فندقًا للوفاء بالديون غير المسددة لأصحابها السابقين خلال جائحة كورونا”.
وفي المحصلة ورغم أن الأرقام الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة تشير إلى استقبال البلاد نحو 8.88 مليون زائر (معظمهم من دول غرب أوروبا) خلال الأشهر الأربع الأولى من هذا العام، بزيادة تقدر بنحو 172.5% على أساس سنوي، فإن هذا النمو لا يرتقي بعد لمستوى طموحات ما قبل الجائحة حين بلغ عدد الزوار 52 مليون سائح، أنعشوا ميزانية البلاد بنحو 34.5 مليار دولار، فيما تزداد المخاوف من تلقي السياحة الداخلية ضربات مؤثرة هذا العام تزيد من تفاقم الأزمة.
]]>تمتلك هذه البلاد العربية الواقعة غرب القارة الإفريقية، عوامل جذب سياحي كثيرة، أهمها مدنها التاريخية الرائعة التي تحكي جزءًا كبيرًا من قصة الشعب الموريتاني وتاريخه وأنماط اهتمامه القديمة والمتغيرات التي طرأت عليه وغنى مكوناته وتعدده الثقافي وعمارته الفريدة.
يحتضن شمال موريتانيا العديد من المدن الأثرية، أهمها شنقيط التي منحت اسمها موريتانيا عبر التاريخ، وتقع هذه المدينة على بعد 516 كيلومترًا من العاصمة نواكشوط، بين جوانح سلسلة جبال آدرار الشامخة وكثبان الصحراء الرملية الممتدة مدّ البصر.
يطلق على هذه المدينة لقب “مدينة المكتبات”، لاحتوائها على مكتبات تضم مخطوطات كُتِب قسم كبير منها على جلود الغزلان وأحيطت بغلاف من جلد الماعز، تتناول جميع العلوم والفنون بما في ذلك علوم القرآن والحديث وعلم الفلك والرياضيات والهندسة والنحو وعلوم اللغة والشعر والتاريخ والطب والجغرافيا وغيرها.
تحدثك بناءات شنقيط التي بُنيت سنة 660 هجريًا عن ماضي المدينة السحيق والفكر الخلاق لدى الرجل الشنقيطي الذي سخّر الحجارة والطين لبناء مدينة متكاملة في تناسق بديع، ليشكل فنًا معماريًا قلما يوجد مثله في كثير من المدن العالمية، فهو يبرز خصوصية حقيقية لليد التي صنعته وللعقل الذي صممه.
كل ما في المدينة يجب زيارته والتعرف عليه عن كثب، لكن أبرز ما يمكن زيارته هناك هو مسجدها العتيق الذي احتل قلب المدينة حتى يقصده المصلون من جميع أطرافها، مسجد لم يلاحظ عليه أي خلل في جسمه المتماسك، حاز قمة الجمال لما فيه من عناصر تراثية قيمة تتجلى في صومعته الشاهقة ذات العشرة أمتار التي تعتبر رمزًا لدولة موريتانيا وذات البناء المتميز، حتى أضحت تحفة تراثية خالدة على مر السنين.
إلى جانب شنقيط نجد مدينة وادان التي تعرف بحصنها المنيع ومكتباتها العتيقة ووديانها البهية، لذلك جاء اسمها تثنية وادٍ، وادي علم ووادي تمر، وتعكس مدينتها القديمة ودورها الضاربة في القدم وسورها ذو الأبواب الأربع الذي ما زالت بقاياه قائمة إلى الآن، جزءًا من حضارات وأمم مرت بصحراء موريتانيا على امتداد التاريخ، مقدمة لزائرها صورةً عن ماضٍ مزدهر وعمران فريد، تأقلم مع الصحراء.
هناك يمكن للسائح أن يتعرف على عظمة الفن المعماري الذي بلغته الحضارة الموريتانية، من خلال زيارة قلعة وادان ومسجدها وبيوتها العتيقة التي شيدت بالحجر الجيري ويغطي جدرانها الطين الأحمر، وأبوابها المصنوعة من خشب السنط الأحمر الأصلي وتؤطرها زخارف ورسوم وأقواس وأشكال هندسية مختلفة.
لك أن تزور أيضًا مدينة “تيشيت” – حاضرة العلم والتجارة ومحطة للقوافل في ساحل إفريقيا – مدينة تحكي تاريخًا طويلًا، طرقات كانت القوافل التي تحمل الكتب والملح والعطور تتخذها قبل قرون ولعدة قرون.
تشتهر المدينة بمسجدها العتيق ومنارته الشهيرة التي يبلغ ارتفاعها 16 مترًا، فضلًا عن أزقتها وممراتها الضيقة المتعرجة التي تروي لك قصصًا تمتد لمئات السنين، وجهود سكان تحدوا قساوة الطبيعة، سكان نحتوا من الجبال الحجارة للبناء واستغلوا البطاح لاستخراج الملح وتسويقه عبر قوافل تجوب إفريقيا وأصقاع البلاد الفسيحة.
نتوجه قليلًا إلى عمق الصحراء الموريتانية بالقرب من الحدود المالية، حيث نجد مدينة “ولاتة” التي ظلت عبر عدة عصور، محطة إشعاع علمي وحضاري وملتقى للتجارة بين العالم العربي وإفريقيا، وتضم كغيرها من مدن موريتانيا التاريخية مكتبات تحوي مئات المخطوطات والتحف الفنية التي تقدم للقارئ والباحث نبذة تاريخية كافية عن الحضارة الصحراوية التي قامت على هذه الأرض منذ عدة قرون.
إلى جانب المدن الأثرية لك أن تتمتع عند زيارة موريتانيا بحدائقها الطبيعية ومحمياتها الوطنية، ففي شمال صحراء البلاد، بين رأس تيميريس وخليج الكلب، يقع حوض آركين تلك السبخة الموحلة التي يجلها الباحثون والعلماء وتم إعلانها حظيرة وطنية محمية.
تمتد هذه المحمية على طول 180 كيلومترًا، وتشكل بتنوعها البيئي والطبيعي إحدى أهم المحميات البيئية في المنطقة، وأكبر مصائد الأسماك حول العالم، كما أنها ملجأ طبيعي تهاجر إليه سنويًا ملايين الطيور من سيبيريا وشمال أوروبا وغرينلاند.
هناك يمكن لمحبي الطبيعة أن يجدوا أسراب البجع الأبيض والخطاف الملكي والبقويق الأشقر والنحام الوردي، فضلًا عن أنواع نادرة من الكائنات البحرية كالدلافين والعقارب البحرية وسمك البوري الأصفر وسمك السلّور والسلاحف البحرية وغيرها، كما يمكنهم أن يشاركوا صيادي “أيمراكن” متعة الصيد في مياه الأطلسي باستخدام الشباك المحمولة على الكتف أو الصيد بالقوارب الشراعية.
أما في أقصى الجنوب الغربي للبلاد، وعلى ضفاف نهر صنهاجة، نهر السنغال، الذي يغذي دولًا إفريقيةً عدة بمياه الشرب والري وفي عمق الأراضي الزراعية الخصبة عند مصب النهر في المحيط الأطلسي، تقع حديقة جاولينغ الطبيعية.
في هذه الحديقة يمكن للزائر أن يشاهد مباشرة عشرات الأنواع من الطيور النادرة منها طائر مالك الحزين واللقلق والبلشون الأبيض والنعام والأوز والبط البري والمائي، إلى جانب أنواع متعددة من الحيوانات والكائنات البحرية.
كما يمكنه أيضًا أن يتمتع بجمال الطبيعة الموريتانية، حيث تتدفق الشلالات من الوديان والبحيرات المتناثرة هنا وهناك، فتشكّل روافد مائية تحيط جوانبها النباتات والعشب والأشجار، والجروف الصخرية التي تعلوها الكثبان.
نلاحظ أن موريتانيا تتمتع بطبيعة خلابة – حيث الصحاري والواحات والوديان والشلالات وشواطئ الأطلسي والحيوانات النادرة – كما تتمتع ببيئة تقليدية – حيث العمارة القديمة والمخطوطات التاريخية والعادات الضاربة في القدم -، مع ذلك فإنها تستقبل عددًا قليلًا من السياح.
يتوقع المسؤولون في هذا البلد العربي أن تصل أعداد السياح هذه السنة إلى نحو 5 آلاف سائح، مقارنة بنحو 20 ألف سائح في السنوات الماضية قبل انتشار وباء كورونا، وهي أعداد قليلة جدًا مقارنة بما تحتويه البلاد من عوامل جذب سياحي كثيرة.
يعود السبب الأساسي لانخفاض أعداد السياح الوافدين إلى موريتانيا إلى تردي البنية التحتية في البلاد، فلا توجد طرقات متقدمة ولا توجد مطارات أو موانئ لها أن تستقبل أعدادًا كبيرةً من السياح الراغبين في زيارة البلاد.
كما تفتقر البلاد إلى المنشآت السياحية المتطورة، فلا تحتوي إلا على عدد قليل من النزل التقليدية التي تقدم خدمات بسيطة لا تلبي حاجة السياح، فالدولة لم تستثمر في قطاع السياحة بالطريقة المطلوبة ولا الخواص أيضًا، فلا يوجد اهتمام كافٍ بهذا القطاع.
عدم اهتمام الدولة بالقطاع السياحي، أثر بشكل كبير على مدن البلاد التقليدية، فتراجعت أعداد المكتبات القديمة وانهارت العديد من المعالم المعمارية وفقدت أصالتها، حتى السواحل لم تهتم بها الدولة ما أثر عليها.
ويصنف البنك الدولي موريتانيا “ضمن الدول الأقل تطورًا”، فتحتل المرتبة 160 من أصل 189 دولة شملها التصنيف، حسب الترتيب العام المعتمد على مؤشر النمو البشري، لافتقارها لأبسط مقومات الدولة.
عدم قدوم السياح لموريتانيا بنفس الأعداد التي تأتي لجارتها الشمالية المغربية، يعود أيضًا إلى الجانب الأمني، ذلك أن القطاع السياحي يعتبر بامتياز ضحية الإرهاب الذي ضرب البلاد في السنوات الأخيرة، وما زال يضرب دول المنطقة.
شهدت موريتانيا في سنوات 2005 و2007 و2008 هجمات إرهابية دامية خلفت عشرات القتلى والجرحى من العسكريين، علاوة على مقتل 4 سياح فرنسيين في 24 من ديسمبر/كانون الأول 2007، في مدينة “ألاك” (250 شرق نواكشوط)، إلى جانب اختطاف رعايا أجانب، بينهم إسبان شمال نواكشوط، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2009.
أدت هذه الهجمات إلى تراجع إقبال السياح الأجانب على موريتانيا، وقرر الاتحاد الأوروبي، سنة 2008 حظر سفر مواطنيه إلى موريتانيا، كما وضعت الخارجية الفرنسية مناطق واسعة من البلد الإفريقي في “القائمة الحمراء” الخطيرة للمناطق التي يمنع على الفرنسيين زيارتها.
رغم تحول موريتانيا من الحلقة الأضعف في منطقة الساحل والصحراء المشحونة بالأزمات إلى واحدة من الحلقات الأكثر صلابة، فإنها ما زالت معنية بخطر الإرهاب، لذلك يعدل العديد من السياح عن القدوم إليها خشية الوقوع في مصيدة الجماعات المسلحة.
يتطلب النهوض بالقطاع السياحي، من الدولة الموريتانية القيام بمجهودات أكبر تمس البنية التحتية المتعلقة بالقطاع فضلًا عن التسويق للمنتج السياحي الوطني والتعريف به خارجيًا وداخليًا، إلى جانب فرض الأمن في البلاد.
]]>وخلال الأسابيع الماضية، حصدت فيديوهات القناة عن مصر أكثر من 16 مليون مشاهدة، حتى كتابة المقال، خصوصًا بعد نشر فيلم وثائقي مدته ساعة و20 دقيقة، ويحاول فيه نقل حالة “البارانويا” التي تعيشها مصر على كل الأصعدة، في المطار والفنادق والشوارع، وحتى ملاحقته من قبل الأمن في مصر، وإجباره على حذف المواد التي صوّرها لمخبز محلي وسط القاهرة.
رغم حصوله على تصريح بالتصوير في مصر، وقيام فريقه بتقديم الاعتمادات اللازمة، احتجز الأمن المصري الفريق في المطار، وصادر معدّاتهم التقنية، ليضطروا لاحقًا تصوير البرنامج بهواتف آيفون، مطالبًا الحكومة المصرية بتغيير شعارها إلى “اترك كاميرتك في المنزل”.
ورغم كل ذلك، ومحاولة التصوير بعيدًا عن أعين الشرطة، إلا أنه تعرض للتوقيف والاستجواب داخل قسم شرطة في القاهرة، لكنه في النهاية احتفظ بالمواد المصوَّرة، بسبب جهل معاوني الأمن بالطريقة الصحيحة لحذفها.
وللهروب من الشرطة وملاحقاتهم المتكررة، اتّجه صانع المحتوى إلى سوق برقاش لتجارة الإبل، شمال غرب محافظة الجيزة، لكن ما يلفت الانتباه هو تنبيهات المُنتِج المحلي الدائمة لفريق العمل بالبقاء غير ملحوظين حتى لا يلاحقهم الأمن في السوق.
دفع هذا مقدّم البرنامج إلى الإشارة تكرارًا إلى حالة الذعر، ليست التي يعيشها الأمن المصري فقط بل أيضًا تلك التي انتقلت إلى المواطنين، وأصبح الجميع في حالة شكّ من الجميع، حتى المُنتِج المحلي الذي عيّنوه لتسهيل مهام التصوير في القاهرة.
صوّر سوني في حلقاته مصر كدولة مرعبة لا يمكن السياحة فيها ولا زيارتها، إذ حالة الرهبة والخوف من أي كاميرا أو توثيق حتى لو كان بغرض الترويج للبلد نفسه ومطبخه وما يقدّمه لزواره، حيث ما أظهرته تلك السلسلة هو المُنافي لذلك تمامًا، ليضرب بمشاهداته المليونية حملات ترويج السياحة التي تقوم بها مصر، كوجهة سياحية رائدة في الشرق الأوسط والعالم، وينتهي به المطاف إلى التصوير في الواحات بعيدًا عن الحضر، فقط ليتجنّب تسلُّط الأجهزة الأمنية.
لم تكن هذه الفيديوهات أو أسلوب تعامل الأمن المصري مفاجئَين للمتابعين عن كثب للحالة في مصر، إذ تعاني البلاد من حالة جنون أمام أي كاميرا منذ عام 2013، وقد ساعدَ الإعلام المصري في تأجيج تلك الحالة مع الإعلان دومًا عن أن أي فيديو يتمّ تصويره يمكن أن يساهم في تشويه صورة البلاد، في ظل تجاهل تامٍّ لحقيقة أن هذه الملاحقات المتكررة هي التشويه الأمثل لسمعة مصر وصورتها أمام العالم.
الجانب “الأسود” للشرطة في مصر، دوّن عنه عام 2018 المدوّن يويو آجنير، حين تمَّ توقيفه أثناء تصويره مقطعًا في مدينة إسنا في صعيد مصر، حيث بدا الضابط خائفًا وقلقًا من كونه أجنبيًّا، وبطريقة غير لائقة قام الضابط بتفتيشه وتفتيش متعلّقاته، ورغم إقناعهم بكونه رحّالة يسافر بين المدن مع السكان المحليين، إلا أنه في النهاية تمَّ اعتقاله وإعادته للأقصر داخل سيارة شرطة، وانتهى به المطاف في منتجع سياحي في المدينة.
في مارس/ آذار 2021 بثَّ مدوّن الفيديو أليكس شاكون فيديو له عن تجربة توقيفه والتحرش به، وتهديده باستخدام السلاح والتلويح بدهسه بالسيارة من قبل معاونين أمنيين في ملابس مدنية ورسمية، فقط لتصويره فيديو عن الأحياء القريبة من أهرامات الجيزة، ليتمَّ اقتياده في النهاية إلى قسم شرطة قريب من المنطقة والتحقيق معه حول جنسيته وما يقوم بتصويره وفي أي فندق يسكن.
ولم تتوقف المعاملة السيّئة معه حتى أخبرهم بجنسيته الأمريكية، ليتحول حينها الحوار تمامًا، ويقدم الأمن له الطعام والمياه مع اعتذارات متكررة عن طريقة التعامل معه، التي لم يكن لها أي سبب سوى “حمايته”، متبيّنًا أن السبب الحقيقي وراء إيقافه هو هيئته ولحيته التي تُنبئ بأنه شرق أوسطي.
بينما الدولة تروّج للسياحة فيها وتحضُّ المسافرين على اختيارها كوجهتهم السياحية، يطارد موظفوها الأمنيون المدونين وصنّاع المحتوى
لكن الحقيقة أن ما حدث مع أليكس هو مشهد معتاد في مصر، حيث علّق متابع مصري للمدون الأمريكي على المقطع قائلًا: “أنا مصري، وقد أتعرض للاعتقال إذا قمت فقط بمشاركة هذا الفيديو”، هذا التعليق الذي حصد أكثر من ألف إعجاب قد يعطينا لمحة ولو بسيطة عن حالة الإرهاب التي يعيشها المصريون اليوم في “الجمهورية الجديدة” التي يروّج لها أتباع النظام، لذلك هناك بعض الإحصاءات والأرقام الموثَّقة التي من المهم إبرازها في هذا الصدد.
تلاحق السلطات المصرية الصحفيين المستقلين لتترك المجال لإعلام وصحافة “السامسونغ” اللذين تصلهما التنبيهات الحكومية عبر البريد الإلكتروني، حيث تقول “مراسلون بلا حدود”، التي وثّقت حجب السلطات أكثر من 500 موقع إخباري، في تقريرها العام الماضي بمناسبة مرور 10 سنوات على ثورة يناير، إن التهليل بالاستقرار والأمن في البلاد هو المشهد الطاغي في وسائل الإعلام المصرية، بعد تشديد السيسي الخناق عليها من خلال إعادة هيكلة شاملة للقطاع، لينحصر بذلك دور المنابر الإعلامية الكبرى في الدعاية للخطاب الرسمي الذي يجسّده الرئيس.
مصر التي أصبحت أحد أكبر سجون العالم بالنسبة إلى الصحفيين، بعد الصين والمملكة العربية السعودية، تقبع اليوم في المرتبة 166 من أصل 180 دولة على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة، حيث لن يكون من الصعب معرفة واقعها الحقوقي السيّئ في ظل الإنترنت والمصادر المفتوحة والمعلومات المتوفرة في كل مكان.
وبينما تروّج الدولة للسياحة فيها وتحضّ المسافرين على اختيارها كوجهتهم السياحية، يطارد موظفوها الأمنيون المدونين وصنّاع المحتوى، فلمن تلك الدعاية؟ وهل هناك أحد يحاسب على تشويه صورة مصر بهذه الدرجة والإضرار بالسياحة بهذا الشكل؟ هل سيحاسَب ضباط المطارات على سوء المعاملة؟ هل سيحاسَب أفراد الأمن الذين ظهروا في الفيديوهات؟ أم أن هذه “البارانويا” التي شاهدها الملايين لن يحاسَب عليها أحد؟
إنها بارانويا يشجّع عليها النظام، ليصبح الجميع مُخبرًا عن الجميع، بارانويا أودت سابقًا بحياة الباحث الإيطالي جوليو ريجيني بعد الشك أنه جاسوس أجنبي، وبحياة السياح المكسيكيين الذين قُتلوا في غارة جوية شنّها الجيش المصري في الصحراء الغربية (بالخطأ) في سبتمبر/ أيلول 2015، واضطرت مصر لاحقًا دفع تعويضات مالية لذويهم.
]]>
قهر اليمنيون بقوة إرادتهم، التضاريس وطوعوها لصالحهم مستغلين إبداعهم، وأسسوا لأنفسهم قرى جبلية في أعالي القمم، بعيدًا عن الأراضي المنبسطة، تعانق الضباب، متفوقة على ناطحات السحاب العصرية.
قرى معلقة محصنة ساحرة تتغنى بروعة الطبيعة، فرغم صعوبة وقساوة العيش فيها تتناثر المنازل هنا وهناك، مبرزة إبداع اليمني الذي حافظ على عاداته وتقاليده. ملف “قرى معلقة” لنون بوست، سيشد الرحال هذه المرة إلى هذه القرى اليمنية للغوص في بعض تفاصيلها والتعرف على جمالها الطبيعي عن كثب.
لليمن عشرات العجائب، قُراه المعلقة المحصنة واحدة منها، فمن الارتفاعات الشاهقة للجبال، تبدو القرى الجبلية اليمنية المعلقة بروعتها وشموخها وهي تتدلى في الأسفل، تحكي قصة حياة ضاربة في القدم، قرى عودت سكانها على الصبر والجلد.
تتنوع تضاريس اليمن بين سهول وصحار وجبال وهضاب، لكن أغلبية اليمنيين اختاروا الجبال للسكن، إذ وجدوا فيها الملجأ لحمايتهم من الأخطار الطبيعية والأطماع البشرية، لذلك نمت علاقة الإنسان اليمني بالجبل منذ قرون طويلة، حتى أصبحا لا يفترقان أبدًا، فكل واحد منهما يحدّد مصير الثاني.
جبال عالية تتناثر فيها القرى العديدة، اتخذها اليمنيون سكنًا وظهيرًا للحماية، رُسمت بألوان طينية متفاوتة الدرجات كلما اقتربنا منها أفصحت عن بعض تفاصيلها، وحكت لنا عن حضارة كبيرة سكنت الجبال وما زالت.
قرى معلقة تكشف عن قوميات وحضارات كثيرة، كيفت الطبيعة خدمةً لها واستغلت تضاريسها الوعرة لخدمتها وحمايتها من كل الأخطار المحدقة حتى تستمر في الحياة، فعاشوا يحبون الحياة التقليدية وأنماطها القديمة.
بنى اليمنيون مساكنهم ذات الطوابق العديدة في تناسق كبير مع الطبيعة، حتى إنك لا تفرق بين الجبال والمنازل
لم يترك اليمنيون هذه القرى إلى الآن، فهي الملجأ والمسكن والمأوى، فمازالوا يسكنون هناك ويبدعون في بناء منازل جديدة شبيهة بالقديمة حتى تحافظ القرى على معمارها وتفاصيلها القديمة الضاربة في التاريخ، وأغلب هذه القرى محاطة بسور للحماية يعلوه حاجز أفقي يمنع محاولة تسلقه.
الحطيب واحدة من هذه القرى المعلقة، تقع شرق منطقة حراز التابعة لمناخة، لا يتجاوز عدد سكانها 400 فرد، بُنيت على سفح جبل يصل ارتفاعه إلى 3200 متر فوق سطح الأرض، من يشاهدها من بعيد يظن أنه أمام قلعة، فهي محصنة بمنازلها وجدرانها القوية المتراصة بصخور جبال “حَراز”، مندمجة مع المناظر الطبيعية بين الصخور والحقول الواسعة النابتة.
سنة 2002، تمت إضافة القرية إلى قائمة “اليونسكو” للتراث العالمي، في الفئة المختلطة بين “الثقافية” و”الطبيعية” كموقع له قيمة عالمية استثنائية، وكل ما حولها من مناظر ثقافية نادرة من جبل “حراز” و”القاضي” و”القناص” و”مناخة”.
ضمن هذه المدن المعلقة نجد أيضًا “ثلا” تتبع محافظة عمران شمال غرب العاصمة صنعاء، وهي واحدة من خمس قرى ضمن مواقع التراث العالمي المؤقتة في اليمن في قائمة التراث العالمي لليونسكو، ويرجع تاريخها إلى فترة مملكة حمير.
نجد أيضًا قرية “عزلة بني عمارة” ضمن مديرية الخبت التابعة لمحافظة المحويت غرب صنعاء، تمتلك هذه القرية المعلقة موروثًا تاريخيًا وأثريًا فريدًا، وفيها مسجد الصافح الذي يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 500 سنة مضت، فضلًا عن العديد من الحصون والقلاع الحربية.
بنى اليمنيون مساكنهم ذات الطوابق العديدة في تناسق كبير مع الطبيعة، حتى إنك لا تفرق بين الجبال والمنازل، فهي تتماهى مع ألوانه وشموخه، وتتمتع البيوت هناك بتصاميم فريدة تظهر مدى دقة الهندسة والتصميم المعماري لليمنيين، وزادت المدارج الزراعية تلك التصاميم جمالًا على جمالها.
بُنيت هذه المنازل البسيطة بحجارة صخرية مُتراصة بشكل متناسق دون استخدام الإسمنت بينها، جعلتها تصمد لقرون عدّة رغم عوامل التعرية المختلفة، ليس هذا فحسب فتلك الحجارة جعلت البيوت باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، فلا حاجة لهم لوسائل التدفئة ولا التبريد في غالب الأحيان إلا إذ قست عليهم الطبيعة أكثر.
تحتاج هذه المنازل زمن الأمطار الغزيرة إلى الترميم، ويكون ذلك بمواد بسيطة، إذ يجلب الأهالي التراب من الحقول الزراعية ويخلطونها بالحشائش والقش والماء وتشكيل ما يسمونه الخلب، ثم يضيفون التراب على حواف السطوح لمنع تسرب مياه الأمطار.
رغم كل هذه المصاعب والتضاريس القاسية، فقد تأقلم أهل اليمن مع الجبال الشامخة وأسسوا لأنفسهم قرى معلقة عانقت عنان السماء
ما يميز هذه المنازل الحجرية التي تلتف على عنق الجبل ليس جمالها فحسب وإنما أيضًا بناؤها بشكل متلاصق، وهي سمة أساسية من سمات بناء القرى المعلقة في اليمن، ما يُنبئ بمدى التقارب والانسجام الاجتماعي بين سكان تلك القرى المتناثرة في جبال اليمن العديدة.
حتى طرقاتهم مختلفة، فبين المنازل بنيت الجسور الداخلية والخارجية لتسهيل التنقل بين المنازل وداخلها، وفي حال حصار القرية قديمًا، فإن هذه الجسور تسهل نقل الطعام والسلاح من منزل إلى آخر بكل حرية، دون أن يشعر المحاصر بحركتهم الداخلية.
الجانب الأمني يعتبر هاجسهم الأكبر، فإلى جانب القلاع والجسور، أنشأ اليمنيون تحصينات في المنازل، وهي عبارة عن فتحات مائلة بجوار الباب يستطيع صاحب المنزل إخراج بندقيته منها والقنص دون أن يراه العدو.
هذا الجمال الطبيعي والعمارة المميزة والتاريخ الثري لقرى اليمن المعلقة، يخفي وراءه ظروف عيش قاسية، رغم ذلك يصر اليمنيين على البقاء هناك والتشبّث بأرض الآباء والأجداد وعاداتهم المتوارثة منذ زمن طويل.
صعوبة الحياة في أعالي الجبال، جعلت اليمني يتقاسم المهمات، فالكل يعمل ولا مجال للراحة هناك منذ بداية النهار إلى غروب الشمس، وعادة ما تقوم المرأة بأعمال البيت كالطهي والنظافة فضلًا عن نقل العلف للمواشي ونقل الماء من أسفل الأودية بطرق بدائية تضطرها لحمل الماء على رأسها وصعود الجبال الوعرة.
يوجد من هم أكثر حظًا ويمتلكون حميرًا تساعدهم على نقل المياه، لكن هذا الأمر يستغرق قرابة الثلاث ساعات في كل رحلة، لصعوبة التضاريس ووجود الماء أسفل الجبال، وهو ما يزيد من المعاناة اليومية للأهالي في تلك القرى المعلقة.
أما الرجل فأبرز مهامه رعي المواشي وزراعة الأرض، ويبدأ موسم الزراعة على رؤوس الجبال في ديسمبر/كانون الأول من كل سنة، حينها يتوجه الرجال إلى الحقول، لنزع بقايا زرع الموسم السابق، وهو ما يطلقون عليه “السلفدة”، لتهيئة الأرض حتى تتم زراعتها من جديد.
بعد الانتهاء من “السلفدة” يتم حرث الأرض بأساليب بدائية تعتمد غالبًا على الدواب، وبذر الحبوب ودفنها بالتراب، وغالبًا ما يردّد الأهالي في أثناء هذه الأعمال المتعبة أهازيج شعبية بصوت مرتفع، لشحن الهمم والحماس للعمل.
معاناة الأهالي لا تتوقف عند جلب الماء وحرث الأرض وتوفير الطعام، إنّما تصل للتعليم أيضًا، فأغلب أطفال تلك القرى المعلقة يقطعون عشرات الكيلومترات يوميًا ويضطرون لصعود طرق جبلية صعبة ووعرة للوصول إلى المدرسة.
رغم كل هذه المصاعب والتضاريس القاسية، فقد تأقلم أهل اليمن مع الجبال الشامخة وأسسوا لأنفسهم قرى معلقة عانقت عنان السماء حتى اشتهرت في العديد من مناطق العالم، فأصبح البعض منها قبلةً للسياح، إلا أن الحرب المتواصلة في البلاد منذ سنوات عدة أثرت على ذلك.
]]>