لا تزال إيران تواجه وضعًا إقليميًا صعبًا للغاية، فما إن توقفت الحرب في لبنان، حتى بدأت الساحة السورية تفرض نفسها في سياق معادلة النفوذ الإيراني بالشرق الأوسط، إذ أعادت عملية تحرير حلب من قبل قوات المعارضة السورية، طرح تساؤل مهم عن مستقبل الوجود الإيراني في سوريا، بعد أن أدت الحرب في لبنان إلى تقويض قوة “حزب الله” اللبناني، كما أن انسحابات الجيش السوري أمام تقدم قوات المعارضة، جعل إيران تواجه تحديًا آخر يتمثل في مدى قدرة نظام بشار الأسد على الاستمرار في المواجهة.
لا يخفى على أحد أن إيران مارست استثمارًا طويل المدى في هذه المدينة، إذ تركزت فيها أغلب ميليشياتها العاملة في الساحة السورية، وتحديدًا العراقية والأفغانية، كما أن الحرس الثوري أسس فيها قاعدة كبيرة للقوات الاستشارية، والتي تم قتل قائدها العميد، كيومرث بور هاشمي، خلال اليومين الماضيين، في أثناء تقدم قوات المعارضة السورية نحوها.
والأهم من ذلك أن سيطرة قوات المعارضة السورية على هذه المدينة، أسقط الأسطورة التي لطالما تفاخرت بها الدعاية الإيرانية، عندما تستعرض خطابات قائد قوة القدس السابق، قاسم سليماني، في هذه المدينة عند احتلالها عام 2016.
أظهرت ردود الفعل الإيرانية حتى الآن ارتباكًا واضحًا مما يجري، فهي أصبحت اليوم أمام تحدي الحفاظ على البنية التحتية لحلفائها في المنطقة، فبعد الانتكاسة الكبيرة التي أصابت “حزب الله” اللبناني في حربه الأخيرة مع “إسرائيل”، وقبوله باتفاق وقف إطلاق نار أقل ما يقال عنه اتفاق استسلام، أصبحت اليوم أمام تحدٍ مهم يتمثل في استيعاب ما يجري على الساحة السورية، من أجل الإبقاء على نظام بشار الأسد، لما تمثله سوريا من قيمة استراتيجية عليا لإيران.
الوقوف على حافة الهاوية
لا يختلف أحد على الدور الذي قامت به إيران في إسناد نظام الأسد، خصوصًا أن تدخلها في الأزمة السورية منذ الأيام الأولى للثورة، أبقى هذا النظام على قيد الحياة، ولولا الدور الذي قام به سليماني في إقناع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالتدخل آنذاك، لكانت قوات المعارضة السورية وصلت إلى داخل دمشق منذ عام 2015، هذا الاهتمام الإيراني بنظام الأسد يعكس جزءًا من رؤية استراتيجية إيرانية عامة في المنطقة.
تدرك إيران بأن سقوط نظام الأسد سيجعلها معزولة تمامًا عن “حزب الله” اللبناني، كما أن خطابها المستمر بمعاداة “إسرائيل” وتحرير القدس سيفقد قيمته الشرعية نتيجة الحتمية الجغرافية التي ستكون أمامها، والأهم من ذلك فإن سقوط هذا النظام يعني اقتراب الخطر من طهران، لأن إيران ستكون مضطرة إلى مواجهة أي تحديات تقف أمامها انطلاقًا من بغداد، خصوصًا بعد خروج بيروت، والآن دمشق، من فعالية ما يسمى بوحدة الساحات التي لطالما تفاخرت بها سابقًا.
وتمثل الزيارة التي يجريها وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، إلى دمشق، ولقائه مع رئيس النظام السوري، رسالة تطمين إيرانية بدعم نظامه، وهذا ما أكدته عملية قيام “إسرائيل” بإجبار طائرة إيرانية تعود لخطوط ماهان إير الإيرانية، على الهبوط في مطار دمشق الدولي، بعد شكوك عن حملها معدات عسكرية.
إن التحدي الأكبر الذي بدأت تواجهه إيران في سوريا، لا يأتي من التطورات الميدانية الأخيرة، بل بطبيعة قواعد اللعبة الإقليمية والدولية التي أصبحت مجبرة على التعامل معها، وفق قاعدة الحد الأدنى من الخسائر، إذ تشير العديد من التقارير إلى توافق روسي تركي غير معلن على إعادة تشكيل المسار السياسي في سوريا، وهذا ما بدا واضحًا من طبيعة التصريحات الروسية والتركية بعد سيطرة قوات المعارضة السورية على حلب، وإن كان بنسب متفاوتة.
والنقطة التي ينبغي الإشارة إليها، أن إيران بعد حرب “إسرائيل” في لبنان، أصبحت عاجزة بشكل واضح للغاية عن إدارة الجبهة الإقليمية بشكل فاعل، على أقل تقدير كما كانت عليه الأوضاع في الأيام الأولى للثورة السورية، عندما استطاعت حشد آلاف المقاتلين في أيام قليلة، أما اليوم فإن الواقع مختلف للغاية، فـ”حزب الله” اللبناني منشغل بإعادة ترميم نفسه من الداخل، والفصائل العراقية غير قادرة على التحرك النشيط عبر الحدود العراقية السورية، بسبب الضربات الأمريكية والإسرائيلية، كما أن قدرة إيران على نقل مقاتلين أفغان وباكستانين أصبحت صعبة للغاية، في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه.
إيران ومسار ما بعد حلب
يمكن القول بأن الهدف الاستراتيجي العام الذي تطمح إيران إلى تحقيقه بالوقت الحاضر، يتمثل بالمقام الأول في إيقاف عمليات تقدم المعارضة السورية عند حدود حماة، وعدم السماح لقوات المعارضة بالسيطرة عليها، لأن السيطرة على هذه المدينة ستلعب دورًا كبيرًا في عزل المليشيات الإيرانية المتواجدة في شرق سوريا، وتحديدًا في دير الزور عن دمشق، كما أن مثل هذه السيطرة ستجعل الممر البري الذي تعتمد عليه إيران، والذي يمتد من التنف إلى الجنوب السوري مهددًا، ما قد ينعكس على جهودها في عمليات نقل الأسلحة والمقاتلين للداخل السوري، أو الاستمرار في عمليات نقل المساعدات العسكرية لـ”حزب الله” اللبناني.
وفي هذا السياق أيضًا، ستعمل إيران على تأمين تواجد مليشياتها في البوكمال والميادين في دير الزور، وبناء تنسيق أمني واسع مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، من أجل احتواء أي تحركات عسكرية قد تلجأ إليها قوات المعارضة السورية، خصوصًا إذا قررت تحريك الجبهة الشرقية، وهذا الواقع قد يدفع إيران لإنتاج تفاهمات جديدة مع الجانب التركي.
ولعل زيارة عراقجي لأنقرة، بعد زيارته لدمشق، قد تتناول جزءًا من هذا التفاهم، خصوصًا في ظل العلاقات الجيدة التي تربط إيران بحزب العمال الكردستاني في العراق، وهي ورقة قد تستخدمها إيران للتأثير على الدور التركي في الساحة السورية.
كما أن إعادة تفعيل الدور الروسي في الساحة السورية، قد يشكل رغبة إيرانية، خصوصًا أن إيران لا تريد أن تستثير “إسرائيل” بدور واسع النطاق في الداخل السوري، إذ ستحاول إيران وعبر توظيف الدور الروسي في فرض مزيد من الضغوط على تركيا، كما أن نجاحها بإقناع روسيا بممارسة أدوار عسكرية أكثر فعالية، قد يساهم في تغير جزء من المشهد الميداني الحالي، لكن كل ذلك سيكون متوقفًا على مدى الموازنة الروسية بين ما يجري في سوريا وأوكرانيا، التي تعتبر الهدف الأبرز للروس، خصوصًا بعد وصول الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للبيت الأبيض.
تحديات صعبة
مما لا شك فيه أن إيران أمام تحديات صعبة للغاية في سوريا، وكلما زاد تقدم قوات المعارضة السورية، زادت هذه التحديات التي تحدثت عنها صحيفة كيهان الإيرانية المقربة من المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، والتي أوضحت في افتتاحيتها صباح اليوم الأحد، بأنه “في الوقت الذي يتفاوض فيه الغرب مع طهران، فإنه يعمل وفق الخطة (ب) في سوريا، من أجل خنق محور المقاومة ومنعه من التنفس”.
إن إيران تعمل اليوم وفق بيئة إقليمية ودولية غير مواتية، فإلى جانب ما يجري في لبنان وسوريا، هناك عزلة إقليمية بدأت تواجهها القيادة الإيرانية، إلى جانب الضغوط الدولية التي تمارس عليها من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خصوصًا بعد قرار الإدانة الذي اتخذه مجلس حكام الوكالة، بسبب ما اعتبره انتهاكات واضحة في البرنامج النووي الإيراني.
إجمالًا ستحاول إيران تقديم كل وسائل الدعم لنظام الأسد، من أجل جعله قادرًا على البقاء، وفي سبيل ذلك قد تعود لسلوكياتها السابقة في الساحة السورية، بإرسال المقاتلين والأسلحة إلى سوريا عبر الأراضي العراقية، لكن مثل هذه الخيارات تبقى محدودة، خصوصًا في ظل تردد حكومة محمد شياع السوداني، الانخراط العسكري المباشر في سوريا، رغم إبداء الدعم السياسي لنظام الأسد، على عكس حكومة نوري المالكي، التي قدمت كل أشكال الدعم للنظام السوري بعد اندلاع الثورة السورية.
هذا الواقع يدفعنا للقول بأن إيران تتعامل اليوم مع واقع جديد في سوريا، وأن تحرير حلب وضعها أمام حقيقة بأنها حالة طارئة في سوريا، ورغم الاستثمار طويل الأجل فيها، فإنها معرضة للانهيار في أي لحظة.