4/4 لماذا اختار المغاربة المذهب المالكي؟ بعد أن تناول الدكتور محمد التمسناني في الحلقات الثلاث، جواب الفقهاء المالكية عن السؤال المطروح (لماذا اختار المغاربة المذهب المالكي؟)، والترجيحات التي عليها تم استقرار المذهب المالكي بالمغرب، مشفوعة بشهادات الأئمة والعلماء من المذهب والمذاهب الأخرى. يتحدث في هذه الحلقة الأخيرة عن علاقة المغاربة بالمذهب، والتي أفرد لها المبحث الثاني من مدارسته، مجيبا عن التساؤلات التالية: متى وكيف عرف المغاربة المذهب المالكي؟ هل كان من المغاربة من تتلمذ على الإمام؟ وما هي الأطوار التي عرفها تاريخ المذهب في المغرب؟ علاقة المغاربة بالمذهب بعد أن اتضح لدينا المقصد الأساس والسبب الحقيقي لاختيار المغاربة وانتحالهم للمذهب المالكي، بقي أن نعرف علاقتهم بالمذهب متى تحققت؟ ومن وراءها؟ وهل كان من المغاربة من تتلمذ على الإمام؟ وما هي الأطوار التي عرفها تاريخ المذهب في المغرب؟ متى وكيف عرف المغاربة المذهب المالكي؟ إن المعلومات حول هذا الموضوع قليلة، إذا ما قورنت بما هومتوفر وموجود فيما يتعلق بعلاقة أهل الأندلس وإفريقية تونس، ولعل السبب في ذلك هو: أن كلاً من البلدين تونس والأندلس كانتا تعرفان وحدة الدولة واستقرار النظام، عكس ما كان عليه الحال في المغرب، لم تكن هناك دولة، ولا نظام قائم، وإن وجد فهو تابع إما للخلافة الأموية بالأندلس كما هوالحال في إمارة نكور، أو لدولة تونس من الأغالبة أوالعبيديين لكن مع ذلك فإن ما توفر لدينا من مصادر ومراجع تؤكد على أن المغاربة عرفوا المذهب المالكي في وقت مبكر وفي حياة الإمام، لا يختلف حالهم في ذلك عن حال أهل الأندلس وأهل تونس، وتم تعرفهم عليه من طريقين: طريق الأندلس وطريق تونس. طريق الأندلس هو الأول والأسبق يتفق المؤرخون على أن إمارة نكور تبنت المذهب المالكي منذ نشأتها الأولى، فكانت بذلك المعقل الأول للمذهب المالكي بالمغرب الأقصى، تمسكت به أصولاً وفروعاً . يقول البكري عن سعيد بن صالح: ولم يزل آل صالح في السنة والجماعة والتمسك بمذهب مالك بن أنس رضي الله عنه، وكان سعيد وأبوه صالح يصليان بالناس ويخطبان ويحفظان القرآن، وقال في عبد الرحمن بن سعيد مؤسس نكور: وكان عبد الرحمن فقيهاً بمذهب مالك. وهذه الإمارة فتحت في عهد الوليد بن عبد الملك، ومؤسسها هو: سعيد بن إدريس بن صالح وذلك سنة 133ه، يقول البكري: والذي أسسها وبناها سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور الحميري، وصالح هوالمعروف بالعبد الصالح، وهو الذي افتتحها زمن الوليد بن عبد الملك ودخل أرض المغرب في الافتتاح الأول، فنزل مرسى تمسامان على البحر بموضع يقال له بدكون بوادي البقر. وهذا يدل على أن المذهب دخل هذه الناحية في حياة الإمام، وبتزامن مع دخوله إلى الأندلس، وخاصة إذا علمنا أن علاقتهم بملوك الأندلس وحكامها كانت وطيدة للغاية. كما أن المؤرخين ذكروا أن وفداً من أهل الأندلس قدم على المولى إدريس الثاني سنة 189ه وكان فيهم تلميذ من تلامذة الإمام مالك، يقول ابن أبي زرع الفاسي في الأنيس المطرب: وفي سنة تسع وثمانين ومائة (189ه) وفدت على إدريس رضي الله عنه وفود العرب من بلاد إفريقية وبلاد الأندلس في نحوالخمسمائة (500) فارس من القيسية والأزد ومدلج وبني يحصب والصدف وغيرهم، فسر إدريس بوفادتهم وأجزل صلاتهم وقربهم ورفع منازلهم وجعلهم بطانته دون البربر، فاعتز بهم، لأنه كان فريداً بين البربر ليس معه عربي، فاستوزر عمير بن مصعب الأزدي، وكان من فرسان العرب وسادتها، ولأبيه مصعب مآثر عظيمة بإفريقية والأندلس، ومشاهد في غزوالروم كثيرة، واستقضى منهم عامر بن محمد بن سعيد القيسي من قيس عيلان، وكان رجلاً صالحاً ورعاً فقيهاً سمع من مالك وسفيان الثوري وروا عنهما كثيراً، ثم خرج إلى الأندلس برسم الجهاد، ثم جاز إلى العدوة فوفد منها على إدريس فيمن وفد عليه من العرب، ولم تزل الوفود تقدم عليه من العرب والبربر من جميع الآفاق، فكثر الناس وضاقت بهم مدينة وليلي. واتخذ أبا الحسن عبد الله بن مالك المالكي كاتباً له وهومن جملة الوافدين، وهوالذي كتب له العقد بشراء موضع عدوة الأندلس من بني يرغثن. ويستفاد الطريق الثاني تونس من تصريحات وإشارات لكبار الفقهاء. يقول القاضي عياض في ترجمة علي بن زياد التونسي العبسي: قال أبوسعيد بن يونس: هوأول من أدخل الموطأ وجامع سفيان المغرب، وفسر لهم قول مالك، ولم يكونوا يعرفونه. هل يوجد في المغاربة من تتلمذ على الإمام؟ المعروف أن من تلامذة الإمام: يحيى بن يحيى الليثي المصمودي الطنجي فهو مغربي الأصل وذكر بعضهم: أن أحد الأعلام من سجلماسة أخذ عن الإمام مالك بالمدينة ورجع إليها ودرس العلوم بها. وفي المدارك: قال إسحاق بن عيسى: رأيت رجلاً من أهل المغرب جاء مالك بن أنس فقال: إن الأهواء كثرت قبلنا، فجعلت على نفسي إن أنا رأيتك أن آخذ بما تأمرني به، فوصف له مالك شرائع الإسلام: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ثم قال: خذ بها ولا تخاصم أحداً. والذي يظهر لي من خلال قراءة متأنية للنص: أن هذا الرجل من المغرب الأقصى وذلك لأن المغرب كان في هذه المرحلة يعرف بكثرة أهل الأهواء الذين كان لهم نفوذ وسلطان على مناطق عديدة. ولأن تلامذة الإمام من أهل تونس معروفون وأخبارهم معلومة ومشهورة فلا داعي إلى الإبهار. يزيد الأمر تأكيداً أن أئمة المذهب الأوائل من المغاربة لم يكونوا يظهرون أنفسهم خوفاً من السلطان الذي كان لأهل الأهواء، فمن المعلوم أن بدعة الخوارج تسربت إلى المغرب منذ أوائل القرن الثاني الهجري على يد بعض خوارج العراق. وهذا ما يشير إليه نصح الإمام له بأن يعمل بذلك في نفسه ولا يخاصم، ونحن نعلم أنه رحمه الله كان يوصي تلامذته من أهل الأندلس بالتبليغ والتعليم والدعوة والنشر. وبفضل جهود العلماء الذين خدموا المذهب ونشروه، أصبحت الجماهير المسلمة بالمغرب على بينة من المذهب، وسهل على أولي الأمر أن يعتبروا المذهب المالكي مذهباً رسمياً للدولة. متى التزم المغاربة المذهب المالكي؟ الالتزام كما عرفنا سابقاً إنما كان نتيجة طبيعية للاقتداء، وبما أن انتشار المذهب بالمغرب في فتراته الأولى لم يكن عاماً وشاملاً، فبالتالي كان الالتزام به محدوداً، بدأ أولاً بإمارة الحميريين بنكور التي كانت متحالفة مع أمويي الأندلس، ولذلك تعرضت لغزوالشيعة العبيديين. وفي عهد الخليفة الأموي الحكم بن هشام التزم معظم المغاربة بالمذهب، يقول المقري في نفح الطيب: ففي دولة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ب انتقلت الفتوى إلى مذهب مالك ب فانتشر علم مالك ورأيه بقرطبة والأندلس جميعاً، بل والمغرب، وذلك برأي الحكم واختياره ب فحمل الناس على مذهب مالك. وبفضل جهود علماء المذهب من المغاربة وغيرهم من المهاجرين إليه في دراسته وخدمته والدعوة إليه، بتعريف الناس بأحوال الإمام وأخلاقه وفضائله وسعة علمه وجلالة قدره اتسعت رقعة انتشاره في عهد الحكم المستنصر الذي قرئ كتابه على المغاربة في جوامعهم وفيه: من أداء الطاعة والدخول في الجماعة واتباع السنة والعمل بمذهب مالك، والتوقف عن العمل بما كانت ضلال الشيعة زرعته عندهم من البدع والتبديل والتحريف، وأنهم تقبلوا جميع ما أمروا بالتزامه من جميع ذلك. وبذلك عم الالتزام به. من عوامل الاستقرار والاستمرار تعد فترة نهاية القرن الرابع بداية استقرار المذهب، حيث انسجم المغاربة مع المذهب في كل الجهات، ومن عوامل الاستقرار: 1 سقوط آخر معقل وسلطان للخوارج بتبني أمير الدولة المدرارية الشاكر لدين الله المذهب المالكي. 2 سقوط دولة العبيديين التي تعرض فيها المذهب لمحنة شديدة تلاها عز عظيم وانتشار واسع للمذهب. 3 تعزز المذهب بدعوة المرابطين، وانتعاشه وازدهاره في ظل حكمهم، يقول المراكشي متحدثاً عن ولاية علي بن يوسف بن تاشفين في المعجب: فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس. يقول العلامة محمد بن الحسن الحجوي: ثم أحيا الله الدولة الإسلامية في المغرب الأقصى والأندلس بالخليفة الأعظم يوسف بن تاشفين اللمتوني الذي جمع شمل تلك الممالك، وأقام العدل، ونصر الدين، وأظهر الفقه، وكان مالكي المذهب، فصارت للفقهاء في وقته ووقت ولده علي من نصف القرن الخامس إلى الربع الأول من السادس الكلمة النافذة، وعاد للمذهب المالكي شبابه. وهكذا أصبح بين المذهب والمغاربة هوية مشتركة وانتماء متبادل. (بتصرف)