الكتاب : مقدمة ابن خلدون المؤلف : ابن خلدون مصدر الكتاب : موقع الوراق http://www.alwarraq.com [ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ] |
ثم صارت السجلات من بعدهم تصدر باسم السلطان، ويضع الكاتب فيها علامته أولاً أو آخراً على حسب الاختيار في محلها وفي لفظها. ثم قد تنزل هذه الخطة بارتفاع المكان عند السلطان لغير صاحبها من أهل المراتب في الدولة أو استبداد وزير عليه، فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرئيس عليه، يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة، والحكم لعلامة ذلك الرئيس. كما وقع آخر الدولة الحفصية لما ارتفع شأن الحجابة، وصار أمرها إلى التفويض ثم الاستبداد، صار حكم العلامة التي للكاتب ملغى وصورتها ثابتة، اتباعاً لما سلف من أمرها. فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه، ذلك بخط يصنعه ويتخير له من صيغ االإنفاذ ما شاء، فيأتمر الكاتب له، ويضع العلامة المعتادة. وقد يختص السلطان بنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبداً بأمره قائماً على نفسه، فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته. (1/131)
ومن خطط الكتابة التوقيع، وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله ويوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها، متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه: فإما أن تصدر كذلك، وإما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة. ويحتاج الموقع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها توقيعه، وقد كان جعفر بن يحيى يوقع القصص بين يدي الرشيد ويرمي بالقصة إلى صاحبها، فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها، حتى قيل: إنها كانت تباع كل قصة منها بدينار. وهكذا كان شأن الدول.
واعلم أن صاحب هذه الخطة لا بد أن يتخير من أرفع طبقات الناس وأهل المروءة والحشمة منهم، وزيادة العلم وعارضة البلاغة، فإنه معرض للنظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم، من أمثال ذلك مع ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الأداب والتخلق بالفضائل، مع ما يضطر إليه في الترسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها.
وقد تكون الرتبة في بعض الدول مستندة إلى أرباب السيوف، لما يقتضيه طبع الدولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبية فيختص السلطان أهل عصبيته بخطط دولته وسائر رتبه، فيقلد المال والسيف والكتابة منهم. فأما رتبة السيف فتستغني عن معاناة العلم، وأما المال والكتابة فيضطر إلى ذلك للبلاغة في هذه والحسبان في الأخرى، فيختارون لها من هذه الطبقة ما دعت إليه الضرورة ويقلدونه، إلا أنه لا تكون يد آخر من أهل العصبية غالبة على يده، ويكون نظره متصرفاً عن نظره. كما هو في دولة الترك لهذا العهد بالمشرق، فإن الكتابة عندهم وإن كانت لصاحب الانشاء إلا أنه تحت يد أمير من أهل عصبية السلطان يعرف بالدويدار، وتعويل السلطان ووثوقه به واستنامتة في غالب أحواله إليه، وتعويله على الآخر في أحوال البلاغة وتطبيق المقاصد وكتمان الأسرار وغير ذلك من توابعها.
وأما الشروط المعتبرة في صاحب هذه الرتبة التي يلاحظها السلطان في اختياره وانتقائه من أصناف الناس فهي كثيرة، وأحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتاب، وهي: رسالة عبد الحميد الكاتب إلى الكتاب أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم. فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن بعد الملوك المكرمين أصنافاً وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات، إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات، والعلم والرزانة. بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها. وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم. لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم. فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون. فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم. وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم.